«بانتظار غودو»

TT

لم يشهد التاريخ، حتى الآن، أن إمبراطورية أزلية، أبدية، سرمدية قامت واستمرت.

إمبراطوريات العالم كلها شبّت وشابت وزالت.. وإن تعددت الأسباب.

إذن، ليس مستغربا أن لا تستثني وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) دولة إسرائيل من هذا المصير، فتطرح في دراسة وضعتها حديثا، شكوكا حول استمراريتها، ولكن «كدولة يهودية»، إلى أبعد من العقدين المقبلين.

رغم أن الدراسة لا تعبر عن موقف رسمي للوكالة، فإن جديتها ظهرت من قرار وضعها بتصرف عدد محدود من المسؤولين الأميركيين المهتمين بشؤون الشرق الأوسط.. للاطلاع.

أبرز ما توقعته الدراسة قيام «توجه ثابت (في إسرائيل) للابتعاد عن حل الدولتين لصالح الدولة الواحدة على اعتبارها النموذج الأفضل لدولة قابلة للحياة قائمة على مبادئ المساواة الديمقراطية التامة». وتفترض الدراسة أن من شأن هذه الدولة أن تبعد عن إسرائيل «شبح دولة التمييز الاستعماري العنصري وتسمح، في الوقت نفسه، بعودة لاجئي حربي 1948/1947 و1967»، التي اعتبرتها الوكالة «شرطا مسبقا للسلام الدائم في المنطقة».

وفي سياق هذه التحولات توقعت الدراسة «عودة جميع اللاجئين الفلسطينيين إلى الأراضي المحتلة (في الدولة الواحدة الديمقراطية) ونزوح مليوني إسرائيلي باتجاه الولايات المتحدة خلال السنوات الخمس عشرة المقبلة»، كما توقعت عودة أكثر من مليون ونصف المليون إسرائيلي إلى روسيا ودول أوروبية أخرى. بالمناسبة، ذكّرت الدراسة بالنتائج الديمغرافية البعيدة المدى لظاهرة تراجع معدل الولادات لدى العائلات اليهودية، بينما يرتفع باطراد عدد السكان الفلسطينيين.

تطرح توقعات الدراسة (على الورق على الأقل) سيناريو تلقائيا، وإن طوباويا، لتسوية النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي يثير التساؤل عما إذا سيكون للولايات المتحدة «دور ما» في إخراجه.

ولكن هذا السيناريو، رغم منطقه المعقول على الصعيد المبدئي، فإنه يتجاهل أن قيام الدولة الديمقراطية الواحدة في إسرائيل، مع ما تستتبعه ديمقراطيتها من مساواة تامة في الحقوق والواجبات بين اليهود وغير اليهود، دونه مفهوم الدولة العبرية وأساس وجودها: أي الهوية الآيديولوجية الدينية التي تشكل البديل الوحيد للرابط القومي المفقود بين أبناء إسرائيل والجامع المشترك بين «السفرديم» و«الأشكنازيين»، وحتى بين العلمانيين والمتدينين أيضا. وهذا يفسر تمسك إسرائيل بهويتها الدينية لكونه يرقى إلى مستوى التمسك بعلّة وجودها ومبرره.

«علمنة» إسرائيل، خلافا لعلمنة أي دولة أخرى في العالم، لا تعني مجرد استبدال «نظام» حكم يستند على خلفية دينية لصالح نظام آخر أكثر مساواة بين المواطنين - بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية - بل إسقاط مبرر وجود الدولة.

انتظار تخلي إسرائيل، تلقائيا، عن هويتها الدينية لصالح هوية علمانية ديمقراطية أشبه «بانتظار غودو» في مسرحية صمويل باكيت الشهيرة، أي تجربة في تقطيع العمر.. بالأمل.

وحتى في حال التسليم، جدلا، بسيناريوهات النزوح المحتملة من إسرائيل وبصحة تأكيد الاختصاصي في القانون الدولي، فرانكلين لامب (في مقابلة مع «برس تي في» الأميركية الجمعة الماضي) بأن «هناك نحو خمسمائة ألف إسرائيلي يحملون جوازات أميركية» ومن لا يملك جوازات أميركية أو غربية «يتقدم بطلبها».. فإن الانتماءات الآيديولوجية - السياسية داخل التركيبة الديمغرافية في إسرائيل ترجح أن يكون اليهود العلمانيون، لا المتدينون والقوميون، أول المرشحين للنزوح مخلفين وراءهم كيانا بشريا أكثر تزمتا وأكثر عداء لجواره من ذي قبل.

من هذا المنظور قد يصبح النزوح عامل حرب جديدة عوضا عن أن يكون عامل تسوية للنزاع.

أما الظاهرة الأخرى التي تتجاهلها الدراسة الأميركية فهي ظاهرة تفاعلات دول الجوار مع التطورات الإسرائيلية الداخلية، فتحول إسرائيل إلى دولة شوفينية - دينية متزمتة لن يمر من دون ردود فعل مقابلة في دول الجوار قد تؤدي إلى سباق أصوليات في المنطقة، بحيث يتحول الشرق الأوسط من مهد للأديان السماوية إلى مرتع للأصوليات الدينية.. حينها قد يحقق النزاع العربي - الإسرائيلي نظرية صامويل هنتنغتون عن «صدام الحضارات».