سكوت.. حنصوّت!

TT

هل يمكن الحديث عن أي موضوع في العالم العربي دون زج أو «حشر» اسم فلسطين فيه؟ سؤال غريب، لكنه حتما مشروع. فيبدو أن التطرق إلى موضوعات مهمة جدا وبالغة التعقيد مثل التعليم والصحة والخدمات العامة والقضاء والبنى التحتية ومكافحة الفساد دائما ما يصطدم بجدار «عذر القضية الفلسطينية» وصوت المعركة يجب أن يأتي «أولا»، وغيرها من الشعارات المرفوعة منذ أزمان غابرة كانت بمثابة التخدير الكامل، وبالتالي تعطيل فرصة الحراك العملي والإيجابي باتجاه قضايا بالغة الحساسية.

فتحتَ مظلة فلسطين ودعوى تحريرها والنضال لأجلها بات كل شيء مسموحا. الفساد انتشر بشكل هائل في شتى الأوساط ومعظم المجالات. التخلف التعليمي أصبح سمة وظاهرة لا استثناء. تدهور البنى التحتية واهتراؤها تحول إلى مادة دسمة للنكات والسخرية. التسلط والاستبداد وانحسار الحريات تحول إلى أسلوب حياة. غياب المنظومة القضائية الفعالة التي تضمن للمواطنين حقوقهم أصبح واقعا مؤلما يحياه الناس بلا أمل حقيقي في تغييره. كلها وبلا استثناء «تؤجل» لأن هناك المعركة الأهم وهي معركة تحولت إلى عراك بسيوف من خشب ضد طواحين الهواء، وخلال كل ذلك تكرس الاستبداد والطغيان.

إياك أن تطالب بتبديل الأولويات! فستُتّهم بالخيانة وتمزيق وحدة الصف والخروج منه والانقلاب على إجماع الأمة! أمة بتعليم متدهور وقضاء مدمر وبلا قدرة زراعية أو صناعية ولا شبكات صرف صحي ولا كهرباء.. إلى آخر القائمة المخجلة من الإنجازات التنموية، أمة بكل هذه «الإنجازات» لن تكون قادرة على تحرير فلسطين، إنها السُّنة الكونية الخالدة. المهم والأهم بينهما علاقة طردية لا يمكن إنكارها.

نعم إنجاز الصرف الصحي وتحسين التعليم وإنقاذ القضاء وإصلاح البنى التحتية سيؤدي «تلقائيا» إلى تحرير فلسطين.. نعم إنها معادلة بهذه السهولة. حرر نفسك تحرر أرضك، وتحرير النفس هو ضمانة العيش بكرامة وهو الحق الإلهي الممنوح والمكفول والمضمون، لكن البشر حرموه على أنفسهم بمظالم وجهل وتسلط. الصراخ والعويل باسم فلسطين تحول إلى مناحة دائمة بدلا من أن يكون هدفا «ختاميا» لمسلسل متصل من الإنجازات والانتصارات الصغيرة والمحددة والكثيرة داخل الأوطان وداخل النفوس، وهو مشوار طويل، ولكنه في غاية الأهمية. الكل يتغنى بانتصار صلاح الدين الأيوبي الهائل في تحريره بيت المقدس، ولكنهم يتناسون نور الدين زنكي وهو الحاكم الذي كان قبله وسلم الموضوع «ع الجاهز» لصلاح الدين الأيوبي. وذلك بعد أن فصل الولاة والقضاة الفاسدين ووحد الجيش وأصلحه ووحد بين مصر وسورية بشكل حقيقي لا كاريكاتوري، كما حصل إبان فترة جمال عبد الناصر. كل هذه الإنجازات مكنت لصلاح الدين الأيوبي أن يحقق النصر الكبير. الصويت والعويل والنواح لمصلحة فلسطين لن يجدي قبل أن ننجز ما هو مطلوب إنجازه، وهذه يجب أن تكون لها الأولوية ولا شيء غيرها.

[email protected]