موسم نزع التسلح

TT

استحوذت قضيتا الأزمة المالية وارتفاع درجات حرارة الأرض على اهتمام العالم في السنوات الأخيرة. وبفضل المبادرة التي أطلقها الرئيس الأميركي باراك أوباما، ربما يكون موسم نزع التسلح النووي قد حل أخيرا. من المقرر أن يلتقي الرئيس أوباما نظيره الروسي ديمتري ميدفيديف في براغ للتوقيع على اتفاق للحد من الأسلحة النووية بين الولايات المتحدة وروسيا تقلص بمقتضاه كل منهما ترسانتها النووية بنسبة 30%. ومن المتوقع أن يحظى الاتفاق بردود أفعال إيجابية، وأن تتعالى أصوات الإشادة بتوجه إدارة أوباما إزاء الحد من الأسلحة ونزع التسلح، وبالاستعداد الروسي للتعاون مع الولايات المتحدة.

بيد أنه رغم كونها خطوة إيجابية نرحب بها جميعا، ومؤشرا مهما على إمكانية تحقيق تعاون في المستقبل، تبقى المعاهدة في حد ذاتها خطوة متواضعة نسبيا على طريق نزع التسليح.

في الوقت ذاته، رغم أنها لا تنص على إجراءات التقليص الراديكالية في الترسانات النووية وأدوات الإطلاق التي يتوق لها العالم، تظل المعاهدة الأميركية - الروسية مهمة ومشجعة.

تأتي هذه المعاهدة بعد السياسات التي انتهجتها إدارة بوش التي وضعت الدولتين على شفا «حرب باردة» جديدة. وعليه، فإنها تمثل إعادة تفعيل لتوجه مهم في العلاقات بين الجانبين، حيث إنها تبقي على ترتيبات بناء الثقة وعمليات التفتيش المتبادلة، وتمهد الساحة للتفاوض بشأن إجراءات تقليص أوسع نطاقا للأسلحة.

إلا أنه ينبغي أن نضع نصب أعيننا أن الخطوة القادمة في إطار جهود تقليص الأسلحة لن تصبح ممكنة إلا إذا توافر اتفاق بشأن تعاون موسع بين الجانبين فيما يخص الدفاع الصاروخي. المعروف أن روسيا تساورها شكوك عميقة حيال إمكانية أن توفر الدرع الصاروخية للولايات المتحدة القدرة على مهاجمة أي هدف في روسيا، بينما تظل هي ذاتها محصنة ضد مثل هذه الهجمات.

كما ستواجه أي خطوات أخرى لنزع التسليح لدى الجانبين معوقات إذا شعرت موسكو بأن حلف شمال الأطلسي (الناتو) يسعى لتطويقها من خلال توسيع دائرة تعاونه العسكري عبر منح عضويته، أو وسائل أخرى، لمزيد من الدول المجاورة لروسيا. يأتي توقيع المعاهدة الجديدة بعد عام من عرض الرئيس أوباما برنامجا مفصلا في براغ لإحياء الجهود العالمية للسيطرة على الأسلحة ونزع التسليح النووي. في وقت لاحق من أبريل (نيسان)، سيستضيف الرئيس الأميركي في واشنطن اجتماع قمة كبيرا يركز على الأمن النووي. وفي مايو (أيار)، ستخضع معاهدة حظر الانتشار النووي للمراجعة في إطار مؤتمر في نيويورك تشارك به جميع حكومات العالم تقريبا. يذكر أن المراجعة التي جرت عام 2005 انتهت بحالة من الشقاق والخصام، بل وتكهن البعض بموت المعاهدة. والتساؤل الآن: ما الذي ستتمخض عنه المراجعة في مايو (أيار) المقبل؟

من خلال إقرار معاهدة حظر الانتشار النووي التي أبرمت عام 1970، ألزمت الدول نفسها بالامتناع عن امتلاك الأسلحة النووية أو التخلص منها حال امتلاكها. ولو كانت جميع دول العالم انضمت إلى والتزمت بواجباتها في ظل هذه المعاهدة، لكنا نحيا الآن في عالم خال من الأسلحة النووية. الواضح أن هذا لم يتحقق. تشير الأرقام إلى أن الأسلحة النووية بلغت ذروتها بتجاوزها 50.000 سلاح نووي أثناء «الحرب الباردة»، ولا يزال العالم يضم أكثر من 20.000 سلاح نووي، يتركز معظمها في الولايات المتحدة وروسيا. ومنذ عام 1970 ارتفع عدد الدول التي تملك أسلحة نووية من خمس إلى تسع.

كما تسود مشاعر إحباط جراء عدم إحراز تقدم على الكثير من الأصعدة المهمة المرتبطة بالمعاهدة. على سبيل المثال، لم تدخل معاهدة الحظر الشامل للاختبارات النووية حيز التنفيذ لامتناع الولايات المتحدة والصين وعدد من الدول الأخرى عن التصديق عليها. ولا تزال المفاوضات الجارية حول إقرار معاهدة تحظر إنتاج اليورانيوم المخصب والبلوتونيوم بغرض صنع أسلحة عالقة في إطار مؤتمر جنيف لنزع التسليح. أيضا، لم يصدق بعد على البروتوكول الإضافي الخاص بالوكالة الدولية للطاقة الذرية الرامي لتعزيز ضمانات التفتيش من قبل عدد كبير من الدول، بينها إيران.

الواضح أن بعض القضايا ستجتذب حتما اهتماما واسعا في مايو، إحداها أنه بعد مرور 20 عاما على انتهاء «الحرب الباردة»، لم يحرز تقدم ملموس على صعيد الالتزام بما تنص عليه المادة السادسة من معاهدة حظر الانتشار النووي بضرورة دخول الدول الخمس النووية في مفاوضات لنزع تسليحها النووي. من بين القضايا الأخرى المثيرة لسخط الكثيرين - خاصة بين الدول العربية - امتناع إسرائيل عن الالتزام بالمعاهدة وامتلاكها أسلحة نووية. وتتمثل قضية ثالثة في انتهاك الكثير من الدول لبنود المعاهدة. ورغم أن جهود إجبار العراق وليبيا على الامتثال للمعاهدة نجحت، فإن هذا لم يتحقق مع كوريا الشمالية، وربما تسعى إيران ودول أخرى لتجاهل المعاهدة.

وكما يعلم الجميع، هناك انقسام منذ أمد بعيد في وجهات النظر حول البرنامج الإيراني لتخصيب اليورانيوم، ومن المحتمل أن يبقى الحال كذلك في مؤتمر مراجعة معاهدة حظر الانتشار النووي.

هناك الكثير من الأسباب تدعو للتشكك في أن برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني يرمي لصنع سلاح نووي، مما يشكل انتهاكا لمعاهدة حظر الانتشار النووي، أو على الأقل الاقتراب من امتلاك القدرة على صنع هذا السلاح. وقد أسفر ذلك بالفعل عن تفاقم خطير في التوترات داخل المنطقة. والتساؤل المطروح الآن: لماذا فشلت جهود إقناع إيران بالتخلي عن أو تجميد برنامجها لتخصيب اليورانيوم حتى الآن؟ ورغم أن معاهدة حظر الانتشار النووي تنص على حق الدول الوقعة على تخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية، فإنها قطعا لا تلزم الدول باستخدام هذا الحق. ومن الصعب أن يتجاهل المرء الانطباع بأن التوجه حيال إيران اتسم في معظمه بالتعالي والفظاظة. وقد أخطرت إيران بأنه سيجري التفاوض معها حول مجموعة متنوعة من المزايا لكن فقط شريطة تجميدها برنامج تخصيب اليورانيوم أولا. لكن من يقدم على التنازل عن بطاقته الرابحة قبل الدخول في اللعب؟ من جانبه، امتلك الرئيس أوباما حسا عقلانيا جيدا بسماحه بالدخول في محادثات مباشرة مع طهران من دون أي شروط مسبقة. وتعد هذه المحادثات عالقة الآن، لكن ينبغي استئنافها.

الواضح أن الدول التي صنعت أسلحة نووية أقدمت على ذلك في الغالب لاعتقادها بوجود تهديدات أمنية وسعيا لتعزيز مكانتها. عندما شرعت إيران في جهودها لتخصيب اليورانيوم في الثمانينيات، كانت تنظر، عن حق، إلى العراق كمصدر تهديد نووي مستقبلي لها. مع تلاشي هذا التهديد، ما مدى حكمة إقدام الولايات المتحدة وإسرائيل على ترديد فكرة قصف منشآت التخصيب الإيرانية؟ ألم يكن من الأفضل والأكثر حكمة عرض استعادة العلاقات الدبلوماسية وضمانات ضد التعرض لهجمات مسلحة وأعمال تخريب كجزء من اتفاق نووي؟ وقد جرى تقديم ذلك بالفعل في حالة كوريا الشمالية، إذن لماذا لا يتكرر الأمر نفسه مع إيران؟

في الواقع، سيمس مؤتمر مراجعة معاهدة حظر الانتشار النووي بالكاد هذه القضايا، لكن من المحتمل أن يتعرض لمناقشة كيفية النظر في فكرة بناء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط. ويمكن تصميم هذه المنطقة على نحو ييسر استغلال الطاقة النووية في أغراض توليد الكهرباء أو تحلية المياه، وربما على أساس إقليمي.

إلا أنه من أجل الحد من التوترات في المنطقة، ينبغي أن يتضمن التصور الخاص بهذه المنطقة التخلي عن ليس فقط الأسلحة النووية، وإنما أيضا منشآت تخصيب اليورانيوم وإعادة معالجة البلوتونيوم.

خلال السنوات القليلة الماضية، تزايدت الدعوات من أجل إقرار سياسات حكومية ترمي، مثلما الحال مع معاهدة حظر الانتشار النووي، إلى تخليص العالم من الأسلحة النووية. في يناير (كانون الثاني) 2007، نشر كل من جورج شولتز وهنري كيسنغر، وزيري الخارجية الأميركيين السابقين، وبيل بري، وزير الدفاع السابق، وسام نن، السيناتور السابق، مقالا عمدوا خلاله إلى تذكير واشنطن والعالم بأن «الحرب الباردة» انتهت. وأشاروا إلى أنه إذا استمرت أميركا وروسيا وغيرهما من الدول في النظر إلى الأسلحة النووية كأداة ضرورية لحماية الأمن الوطني، فإن دولا أخرى ستتبع النهج ذاته، وينجم عن ذلك انتشار الأسلحة النووية. وحثوا الولايات المتحدة وروسيا على الاضطلاع بدور الريادة في عملية طويلة تنتهي بتطهير العالم من الأسلحة النووية. وأثارت هذه المناشدة استجابة واسعة وقوية من العالم. من ناحية أخرى، وفي الوقت الذي ركزا فيه على إجراءات كثيرة قصيرة الأجل، مثل الاتفاق الراهن، أقر أوباما وميدفيديف الهدف طويل الأجل المتمثل في نزع التسليح الكامل في بيان أصدراه في لندن في أبريل (نيسان) 2009.

هل هذا الهدف طويل الأمد ساذج ويوتوبي؟ ليس بالضرورة. بين عامي 1910 و1945، عانى العالم ويلات حربين عالميتين وانهيار «عصبة الأمم». ويمكن أن يحدث الكثير في العالم بين عامي 2010 و2045. إن عجلة الاعتماد المتبادل بين الدول تتسارع وتجبر الدول على وضع المصالح الأمنية للدول الأخرى نصب أعينها. إلا أن ما نشهده الآن لا يعدو بداية تبعث على الأمل في رحلة طويلة.

* المدير الأسبق للوكالة الدولية للطاقة الذرية وكبير المفتشين الدوليين في العراق سابقا

* خدمة «غلوبال فيوبوينت»

خاص بـ«الشرق الأوسط»