علائق الاستيلاء الإسرائيلي بالانتشار النووي

TT

تبدو مساعي التفاوض غير المباشر بين الإسرائيليين والفلسطينيين سائرة إلى إخفاق. والرفض من جانب الفلسطينيين سببه تفاقم الاستيطان بالقدس والضفة، وفي الأراضي التي من المفروض أن يجلو عنها المحتلون الإسرائيليون عند التوصل إلى اتفاقية سلام! أما إصرار الحكومة الإسرائيلية على الاستمرار في الاستيطان فله سببان حقيقيان: فرض حذف بندين من بنود التفاوض المنتظرة وهما: القدس، وعودة اللاجئين - والسبب الآخر: تأجيل التفاوض على السلام لحين «إزالة الأخطار عن إسرائيل» والمتمثلة بالنووي الإيراني، وسلاح حزب الله وحماس والتنظيمات الفلسطينية الأخرى. فمن وجهة نظر الاستراتيجيين الإسرائيليين، لا تزال المصالح الإسرائيلية (والغربية من وجهة نظر إسرائيل التي تربط المصالح الغربية في المنطقة بها) في خطر، رغم ارتباط النظام العراقي، واستئناس السلطة الفلسطينية والنظام السوري إلى حد بعيد. ويبدو الخطر من وجهة النظر الإسرائيلية في الانتشار الإيراني النووي وغير النووي، وفي استمرار «القاعدة» وهجماتها، وفي القدرات القتالية والصاروخية لحزب الله وحماس. هكذا وبهذا الترتيب. ومن أجل ذلك؛ يرى الإسرائيليون أو بعض صقورهم ضرورة شن حروب يدعمهم فيها الأميركيون والأوروبيون لإزالة هذه الأخطار الثلاثة. وقد كانت حرب غزة آخر عام 2008 نموذجا للحروب التي ترى إسرائيل شنها لتخفيف درجات الأخطار قبل التفكير الجدي في السلام.

واعتقد هؤلاء أنه يمكن السيطرة على العالم من خلال الأمم المتحدة التي يملكون أكثرية فيها. والمطلوب أن يروا العين الحمراء بشن الحروب «النموذجية» على بعض الأصوليات والدكتاتوريات. ثم يتلو ذلك دبلوماسية قوية لنشر ثقافة وممارسات الديمقراطية وحقوق الإنسان، بعد أن يكون الأصوليون قد تواروا، والدكتاتوريون التسلطيون قد ضعفوا وتهافتوا. وكأنما جاءت هجمة أسامة بن لادن هدية لهم، فكانت الحرب على أفغانستان - التي بدا كأنما لا علاقة لإسرائيل بها - ثم على العراق، التي افتخر الإسرائيليون علنا بالدفع إليها، كما افتخر أحمد الجلبي ومشايعوه. لكن الفرق أن الجلبي لا يزال يفخر، وأن الإسرائيليين صمتوا، لأنهم من حيث لا يدرون جلبوا إلى كرْمهم من هو أخطر من صدام حسين. ومنذ عام 2005 بدأ الاستراتيجيون الأميركيون يعدّلون وجهة النظر تلك، وقادهم في ذلك استراتيجيو العسكريين، ثم تجرأ على ذلك السياسيون، وكتاب الأعمدة في الصحف، الذين كانوا قد صمتوا جميعا تحت وطأة الحرب العالمية التي كانت الولايات المتحدة تقودها على الإرهاب. وفي عام 2007 وبعد خسارة بوش وحزبه للانتخابات في المجلسين، وصدور تقرير لجنة بيكر/ هاملتون، الداعي لاستراتيجية معاكسة، بدأ العسكريون - بقيادة غيتس وبترايوس - ينفذون الاستراتيجية الجديدة دون الإعلان عنها. ولذا فقد كان من الطبيعي أن يكون فشل سياسة بوش بالداخل الأميركي، وفي التعامل مع الأزمات الخارجية وبخاصة أزمة الشرق الأوسط - بين أسباب نجاح باراك أوباما، الذي أعلن عن ذلك في خطابات تاريخية تحل الدبلوماسية محل العنف، وتطمح لعهد جديد مع المسلمين والعرب والشرق الأوسط. وكان من اللافت أن العسكريين الأميركيين الرئيسيين الذين بدأوا بتنفيذ سياسات الانضباط والدبلوماسية في السنتين الأخيرتين من رئاسة بوش، بقوا أيام أوباما. فقد بقي غيتس وزيرا للدفاع، وترقى بترايوس من قائد للقوات بالعراق، إلى قائد للقيادة المركزية التي تشمل الشرق كله ما عدا تركيا وإسرائيل.

يقوم التفكير الجديد/ القديم، على أن الدبلوماسية والمفاوضات والحلول الوسط هي الأقدر على حماية الاستقرار ومصالح الولايات المتحدة والغرب. وهذا نقد مباشر لكل ما تم في عهد الرئيس بوش؛ باستثناء الحرب على أفغانستان، إذ لا يزال الأميركيون يعتبرونها حربا دفاعية، ويضاف إلى دفاعيتها واجب إقامة دولة ديمقراطية في أفغانستان، كما يوشك أن يحدث بالعراق!

لكن كان من سوء حظ أوباما وغيتس وبترايوس وكلينتون معا، أن عهد أوباما بدأ أيضا بعودة نتنياهو إلى رئاسة الحكومة في إسرائيل. ونتنياهو بالإضافة إلى آيديولوجيته المعروفة حول ضرورة الحرب لنشر الديمقراطية والسلام من حول إسرائيل، محكوم أيضا بوجود كتلة قوية للمستوطنين في الكنيست وفي حكومته، التي فضل التحالف معها على التحالف مع «كاديما» بزعامة تسيبي ليفني. ومع ذلك، ورغم آيديولوجيته المعروفة؛ فإن أوباما ومن أول يوم من عام 2009 بل قبل ذلك، سلط على نتنياهو وليبرمان وزير خارجيته الدبلوماسي المحترف جورج ميتشل، الذي قضى عاما وثلاثة أشهر في مجيء ورواح وعرض صيغ لبدء التفاوض دون جدوى. ووجهة نظر ميتشل في المسألة أن الحروب التي يطالب بها نتنياهو لتسهيل عملية السلام، حصلت بالفعل، وفي لبنان وغزة. ومع ذلك فإنها لم تزد إسرائيل أمنا. وصار حزب الله أقوى، كما صارت حماس أقوى. ففي المدى القريب من صالح إسرائيل التفاوض على السلام، لأن هناك عربا معتدلين لديهم مبادرة للاعتراف والتطبيع مع الدولة العبرية إن خرجت من الأراضي التي تحتلها منذ عام 1967 في فلسطين وسورية ولبنان. وفي المدى الاستراتيجي أيضا من صالح إسرائيل الموافقة على إقامة دولة فلسطينية مستقلة، لأن الفلسطينيين ستزيد أعدادهم فيؤثرون على الطابع اليهودي للدولة العبرية، ولأن المعتدلين - ومنهم السلطة الفلسطينية - سوف تتضاءل نفوذهم، وتزداد نفوذ الثوريين الإسلاميين، إذا تأخر الوصول إلى السلام. بيد أن كل وسائل الإقناع السرية والعلنية لم تنفع، فانصرف الأميركيون للضغط على الفلسطينيين للموافقة على مفاوضات دون وقف الاستيطان. وما استطاعت السلطة الموافقة، فعرض الأميركيون مفاوضات غير مباشرة على أن تراعي إسرائيل المظاهر على الأقل للتمكين من البدء بالعملية. واحتفى الأميركيون بهذا المخرج العبقري الذي سبقتهم إليه سورية مع تركيا، فجاء إلى المنطقة مرة واحدة كل من نائب الرئيس بايدن، ووزيرة الخارجية كلينتون، ومبعوث الرئيس جورج ميتشل.

وحدث ما كان منتظرا أو غير منتظر: إعلان إسرائيل عن استمرار الاستيطان في الضفة، وعن تصعيد الاستيطان بالقدس، في حضور بايدن! وشعر الأميركيون بالإهانة، واستدعوا نتنياهو، وكرروا عليه الشروط الأميركية والتساؤلات، وهو لا يزال يحاول الإجابة عنها! يصر نتنياهو إذن على وجود علاقة طردية وعكسية بين الوجودين أو الانتشارين الإسرائيلي والإيراني. فالانتشار الإيراني يزيد من الأخطار على إسرائيل، وهي لا تستطيع الدخول في مفاوضات سلام إلا إذا كان ظهرها آمنا.

وقد قال الأميركيون حتى الآن إنه لا علاقة بين الأمرين. والأمن الاستراتيجي لإسرائيل هو بيد الولايات المتحدة. والأرض المحتلة والمستوطنات لا تقدم أي قوة أو ميزة لإسرائيل، بل تثير الجوار عليها، وتضع خمسة ملايين فلسطيني على الأقل في مواقع المواجهة معها. ولا شك أن إيران وامتداداتها أخطار، لكنها أخطار محسوبة. وهذا العام للتفاوض على النووي، وتشديد العقوبات؛ والعام المقبل - إن فشلت المفاوضات - هو عام الحسم العسكري. وفي الشهور الماضية كان هناك تصعيد من جانب إسرائيل ومن جانب حزب الله في التصريحات والتدريبات والمناورات. وكان واضحا أن الإسرائيليين يحاولون بذلك تعظيم درجات الخطر. وقد تدخل الأميركيون العسكريون والسياسيون للقول إنه ليس مسموحا لأحد إثارة حرب هذا العام؛ بل هو عام تفاوض. فهدأ ضجيح الحرب من جانب حزب الله، لكنه لم يهدأ من جانب إسرائيل.

إن الذي نخشاه، وبسبب التصلب الإسرائيلي في وجه كل أشكال التفاوض، أن يغير السياسيون (وليس العسكريين) الأميركيون وجهة نظرهم، فيرون مرة أخرى أنه لا بد من حرب أو حروب قبل السلام ومعاهداته. لكن بترايوس أخبرهم في معرض الشكوى من عدم شمول صلاحياته للمجالين الإسرائيلي والتركي (بل هما تابعان للأطلسي مباشرة) أن دروس السنوات الماضية، وفي الشرق الأوسط بالذات، لا تفيد أن الحروب يمكن أن تكون مقدمة للسلام!

لنأمل أن يظل أوباما صلبا في مسألة التفاوض، كما كان في مسألة العناية الصحية. إنما وعلى أي حال؛ فإن على الفلسطينيين والعرب أن يبدأوا عهدا جديدا من التفكير بخيارات أخرى. إذ يبدو أن ما نعيشه منذ أوسلو ومدريد (بين العامين 1992 و1995) هو الحد الأقصى لما يمكن بلوغه من سلام من طريق التفاوض المباشر وغير المباشر. وهذا الأمر صرحت به لجنة المتابعة العربية، كما تحدث عنه عدة رؤساء في مؤتمر القمة الأخير بليبيا.