صخب وهدوء في السعودية

TT

لا تكف الساحة السعودية عن الدفع بمزيد من عناوين المعارك بين التيارات الفكرية السياسية، كل شهر مرة أو مرتين، من المرأة، وما أكثر قضاياها، إلى مناهج التدين، إلى الاختلاط، إلى لجم الصحافة والكتاب بسبب جرأتهم على «الثوابت» كما يقال، وأخيرا: إعلان واعظ سعودي تلفزيوني عن عزمه زيارة القدس، هكذا في لحظة تصعيد جماهيري، وحين ذهبت السكرة وجاءت الفكرة تذكر واعظنا أن إسرائيل هي الجهة التي تصدر تأشيرات الزيارة للقدس وليس بنغلاديش!

عموما ستنتهي زوبعة زائر إسرائيل، وقبله المفتي بهدم الحرم من أجل منع اختلاط النساء بالرجال، وفتوى الاختلاط التكفيرية لرجل دين طاعن في السن، وفتوى قتل ملاك القنوات الفضائية. وفي المقابل يترصد الطرف الآخر مواقف وتصريحات وسقطات الطرف الثاني، وهكذا نعيش في هذا الجو الساخن، وسنعيش.

ما يهم في هذا السياق هو أنني كثيرا ما قرأت تذمرا من بعض الكتاب السعوديين، المولعين بالحياد والهدوء، من هذا الحال، وأن الكل متطرف، الأصوليون والليبراليون، وأنهم خطفوا البلد، أحد هؤلاء الكتاب المتذمرين، كرر أكثر من مرة أنه يدعو البلد للتخلص من «صراع الطرفيين» نسبة للطرف، وأن يعلو صوت أهل الوسط، والحق أن هذه فكرة مثالية وغير عملية، والأهم أنها لم تقع في التاريخ، فالذي صنع تاريخ البشر السياسي والاجتماعي والفكري والعلمي هو صراع النقائض، وتضارب «الطرفيين» لأنه لو استمر المجتمع، أي مجتمع بشري، في أي زمن، من دون هذه الصراعات والمواجهات لما تقدمت البشرية قيد أنملة. إن الجدل، مهما بلغ من صخبه وسفاهته أحيانا، وإيغاله في الولوغ في أعراض الناس والتجريح في شخصياتهم، فإنه وقود ومحرك الأسئلة الراكدة، التي تعكر صفو الباحثين عن السكينة والطمأنينة!

هذا لا يعني أن كل ما يجري جدل علمي ومنطقي، ومحكوم بقوانين علمية، أو نوايا صافية للبحث عن الحقيقة، نعم هو صراع أفكار في المقام الأول، وربما يكون فيه تضارب مصالح وأهواء شخصية.. ربما، لكن في النهاية هو في الشكل الظاهر منه جدل فكري وسياسي على خيارات مجتمعية، سيتطور الجدل ويترقى، ويهدأ الغبار بعد أن يكون المجتمع مرتاحا من استنزافه من أجل خاطر الخائفين من العصر، وسينتقل الجدل حينها إلى موضوعات التنمية أو أمور أكثر دقة ومعاشية. وبكل حال سيظل في كل مجتمع ثلة من محبي إثارة الغبار والصخب، بصرف النظر عن مضمون الصخب.

إلى تلك اللحظة، نحن في وضع تاريخي طبيعي مرت به مجتمعات من قبلنا وستمر به مجتمعات من بعدنا، كلها مثلنا تقف أمام لحظة اختيار حرجة في مصيرها وهويتها ومآلها ومستقبلها. ولا معنى لمواعظ بعض المثاليين منا عن وجوب إقصاء «الطرفيين» أو الأطراف.

[email protected]