ديمقراطية بلا دستور أقوى من دساتير بلا ديمقراطية

TT

قرية وستمنستر هي مصطلح اعتباري رمزي كمصطلحات مثل «العالم العربي»، أو «الأمة الإسلامية»، أو العالم الأنغلوساكسوني، أو «فليت ستريت» (شارع الصحافة، بمعنى السلطة الرابعة، رغم أن 80% من الصحف أخلت مبانيها فيه قبل 10 سنوات).

أي مصطلح بدأ من نقطة معرفة جغرافية أو نقطة معرفة ثقافية أو لغوية، ليضم كيانات واعتبارات أوسع، أو مفاهيم تنطبق على نشاط معين.

ورغم أن بلدية وستمنستر تمتد من ضفة نهر التيمس الغربية الشمالية حتى منطقة كيلبورن التي يقطنها الأيرلنديون والمهاجرون من أستراليا، وغربا حتى هارودز شرقا حتى حي المال والبنوك، فإن المقصود في اللغة الصحافية هو قصر وستمنستر، أي البرلمان بمجلسيه العموم واللوردات، وشارع الوايتهول، حيث الوزارات، ويتفرع منه داوننغ ستريت، مقر رئيس الوزراء ومجلسه، الذي أصبح مغلقا من المدخل ببوابة حديدية بفضل الإرهاب (وللأمانة، فإن عصابة بن لادن وغيرها من سارقي راية الإسلام بريئة من مسؤولية البوابة التي وضعت في عهد الليدي ثاتشر بعد هجوم منظمة الجيش الجمهوري الأيرلندي بصواريخ مورتر على المقر).

التعبير أيضا يشمل المجموعة الصحافية البرلمانية، التي تسمى أيضا اعتباريا «منصة الصحافة»، رغم أن مكاتبنا تمد ثلاثة أدوار متداخلة كشبكة العنكبوت. المنصة نفسها تتسع بالكاد لـ60 شخصا، اكتظت يوم الأربعاء بزحمة الصحافيين (واغلبهم لا يحضر المنصة نفسها إلا إذا كانت الجلسة تهم قراءه)، لمشاهدة آخر منازلة أسبوعية بين رئيس الحكومة غوردن براون وزعيم المعارضة دافيد كاميرون، قبل الانتخابات النيابية العامة التي ستجرى في السادس من مايو (أيار) هذا العام.

تعبير قرية وستمنستر مطاط، فقد شمل هذا الأسبوع (وحتى تشكل الحكومة الجديدة في مايو) مائتين من صالات أخبار يمثلها مراسلون برلمانيون في المنصة الصحافية.

السبب إعلان براون تقدمه لجلالة الملكة بطلب حل البرلمان، فوافقت، وبالتالي اختتم المجلس آخر أعماله الخميس (أول من أمس)، حول قرية وستمنستر إلى سيرك أو مهرجان الانتخابات، الذي يشهد تقليعات جديدة مستوردة (من أميركا طبعا.. واللهم احفظنا نحن التقليديين الديمقراطيين المحافظين من شرور الحداثة والتجديد والمستورد من الدنيا الجديدة)، مثل المناظرات التلفزيونية بين زعماء الأحزاب الثلاثة الكبرى (المحافظون، والعمال الجديد الحاكم، والديمقراطيون الأحرار).

رأس حربة شارع الصحافة المكتوبة، والمبثة، هي مجموعة اللوبي - ولا ترجمة عربية لها - وهي غير اللوبي بالمعنى الأميركي (كاللوبي اليهودي ولوبي شركات التأمين).

مجموعة من 50 صحافيا اتفقوا تاريخيا قبل 200 عام، مع رئيس البرلمان وحارس العصا السوداء، على السماح بوقوفهم في الردهة (اللوبي) الفاصلة بين مجلسي العموم واللوردات، وهذا مصدر الاسم.

وكاتبكم ضمن هذه المجموعة «المضمونة أمنيا ومهنيا» لمصاحبة رئيس الوزراء في تنقلاته.

ولذا فمهرجان الانتخابات أمر مرهق للعواجيز أمثالي، ورئيس الوزراء، وزعماء الأحزاب يسافرون البلاد بطولها وعرضها، ونحن نلهث قبلهم (نسبقهم إلى القاعة بينما يغافلوننا لملاطفة البوابين والسعاة والغرسونات طمعا في زيادة شعبيتهم).

رئيس الوزراء متوتر وخائف ولا يريد أن يدخل التاريخ كرئيس وزارة لم ينتخبه أحد، فلم يتح له سوى عامين فقط في كرسي الحكم بعد استقالة توني بلير وإحلاله محله. وتوتره دفعه إلى الاكتفاء بمحادثة الرئيس باراك أوباما تليفونيا يوم الأربعاء، ولن يحضر المؤتمر الدولي لنزع السلاح النووي الذي يرأسه أوباما بعد غد الاثنين، وأناب عنه وزير الخارجية دافيد ميليباند لحضور المؤتمر.

ويخشى براون غيابه عن البلاد ولو يومين في أثناء الحملة الانتخابية. وهي الأكثر سخونة وعدم توقع في 13 انتخابا عاما شهدتها (وغطيت نصفها كصحافي). وربما يخشى انقلابا داخليا - كما حدث مع ثاتشر في أثناء وجودها في برارسي - يبعده فيه البليريون إذا أشارت استطلاعات الرأي إلى نفور الناخب شخصيا من براون. وبراون اضطر إلى تسليم قيادة الحملة الانتخابية للبليريين بزعامة اللورد بيتر ماندلسون.

استطلاعات الرأي (وتجرى نصف دستة منها يوميا) تشير حتى الآن إلى تقارب الحزبين - حزب المحافظين المعارض متقدم بما بين ستة وثمانية نقاط على العمال الحاكم، لكن هذا لا يكفي لأغلبية تكوين حكومة وحدهم - وهذا يعني برلمانا معلقا، مما يعتبر موسيقى عذبة لآذان الأحزاب الصغرى (القوميون الاسكتلنديون، والقوميون الويلش، ووحدويو اليستر، والجمهوريون في أيرلندا الشمالية، والخضر، والمستقلون)، فيمكنهم متاجرة مقاعدهم للحكومة بمكاسب يطالب بها مؤيدوهم (القوميون الويلش مثلا يطالبون بـ300 مليون جنيه زيادة في ميزانية إمارة ويلز مقابل تأييد أي حزب).

الأحزاب الصغرى أهون على الزعيمين الكبيرين، براون وكاميرون، من دخول ائتلاف مع الديمقراطيين الأحرار الذين سيطالبون بثمن باهظ سيتهم أي زعيم يدفعه بتدمير تقاليد الأمة الديمقراطية العريقة الممتدة لقرابة تسعة قرون.

مطلب الديمقراطيين الأحرار هو تعديل النظام الانتخابي من نظام الدوائر (أي مقعد يحتله نائب يمثل دائرة من الدوائر الـ646) إلى نظام التمثيل النسبي المعروف بالقوائم، مما يعطيهم عددا أكير من المقاعد. وهو نظام أقل ديمقراطية لأن نظام الدوائر يجعل النائب محل حساب دائم من الناخبين الذين يقابلونه أسبوعيا (بين الجمعة والأحد). كما أن الحكومات الائتلافية التي دائما ما يفرزها هذا النظام غير مستقرة ولا تحقق أي وعود انتخابية.

وآخر ائتلاف كان بين العمال والأحرار عام 1974 انتهى بكوارث اقتصادية وإضرابات ومعدلات قياسية للتضخم، بسبب تضارب التيارين. المطلب الآخر هو صياغة دستور مكتوب وإلغاء مجلس اللوردات وجعله بالانتخاب مثل شيوخ الكونغرس الأميركي. غالبية العقلاء مرتاحون لغياب دستور مكتوب في بريطانيا.

فكل ما يدور ديمقراطيا ودستوريا هو بالتقاليد وبسابقات حدثت على مرور العقود والأجيال، أو إعادة تفسيرات لقوانين ولوائح اجتهد فيها اللوردات وأغلبهم فقهاء قانون.

غياب الدستور المكتوب قد يكون نقصا للديمقراطية ودعما للديكتاتوريات وعونا على انتهاك حقوق الإنسان، في بلدان العالم الثالث، لكن هذا الغياب قوة ودعم للديمقراطية في بريطانيا، وتجديد لها. فالتعديلات الدائمة على السابقات واللوائح والتقاليد تسد الثغرات وتجدد شباب الديمقراطية وتقدم إصلاحات مستمرة.

العبارة السحرية هي حكم القانون واستقلال القضاء، وسيادة هذا القضاء - واللوردات أعلاه - الذي أصبح المحكمة السامية في تقليد حكومة العمال للأميركيين بشكل أزعج القانونيين البريطانيين - وهي التي تضمن أن تصبح ممارسات وتقاليد غير مدونة ومكتوبة، أقوى وأعظم دستور اعتباري معنوي غير مكتوب.