السياسة والأمن

TT

بعد كل جولة تفجيرات واسعة وكبيرة في ضحاياها ووقعها وأثرها درجنا أن نتجه وجهة واحدة نغلبها على ما سواها، وهي أن نبحث في العوامل السياسية الدافعة للضعف والرخاوة الأمنية، سواء منها المساعدة والمؤدية إليه، أو بقرنه بجهات سياسية وتقسيمها إلى بعض مستفيد وآخر مضار، أو بإحلال البيئة السياسية منعة أو ضعفا كمساعدة أو باعثة على اشتداد الإرهاب، أو بربط الأمن بالمنافع أو بحصص المكونات وقواها السياسية ورضاها عن قسمتها من السلطة أو تذمرها أو رفضها وافتراض أن المغبون سيلجأ إلى العنف أو بجعل مناطقه ملاذا وحاضنة له، أو بإقران الأمن بالتوقيتات السياسية. فبات لما قبل الانتخابات موجتها من العنف وأخرى للانتخابات ثم ثالثة تعقب الانتخابات ورابعة تستغل فترة الفراغ وخامسة تستثمر الشلل والتوجس الذي يرافق الانتقال الحكومي، ثم زادتها أخرى فترتنا الحالية بإدخالها لعامل جديد وهو تقارب نتائج المتنافسين وعدم وجود فائز محسوم. وهكذا الأمر مع تكبير الدائرة بتفسير الحالة الأمنية الداخلية بربطها بتطورات وملفات دول الإقليم المتشعبة، ثم بالصعود بها إلى أبعد وقرنها بالجدل داخل الإدارة الأميركية تجاه الشأن العراقي وبتوقيتات الانسحاب وما يسبقها وما يلحقها.

ولكن عيب هذا التوجه أنه يعوم المساءلة ويميع المسؤولية، من حيث ذهابه بعيدا وإغفاله الأقرب والمباشر والفعلي، أو التقني والتنفيذي في الموضوع، وهو الأجهزة الأمنية وإدارتها وقياداتها وأسلوب عملها وتطور مهاراتها وقدراتها وامتلاكها للمبادأة من عدمها وفاعلية أدواتها، إذ إن القوى السياسية المتهمة غالبا هي لا تمتلك الأجهزة الأمنية ولا حتى تستطيع أن تحرك شرطي في شارع، ثم الجدل السياسي مهما يشتد وهو هكذا ديدنه في كل الدول الديمقراطية فإنه لا يبعث أو يؤدي إلى انهيارات أمنية، بل إن هذا الاقتران هو نفسه دليل على الخلل ويجب أن يكون موضع المساءلة. فإنه يؤشر على عدم قدرتنا إلى الآن على بناء مؤسسات أمنية تدين بولائها للدولة وتعمل بمعزل عن القوى السياسية وعن تعاقب الحكومات، بل العكس أن المعلومات الراشحة من داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية مصابة حاليا بالشلل وبالترقب وانعدام الفاعلية، خوفا مما سيأتي به تغير الحكومات من تأثير على مواقعها، بسبب تعدد الولاءات والنفوذات داخلها، وأن تكون عرضة لإجراءات انتقامية من القوى الصاعدة. فالأجهزة الأمنية والعسكرية شهدت تضخما كميا وليس نوعيا فبلغت نسبتهم إلى مجموع السكان 1 إلى 25 وهي الأعلى في العالم، في حين أن الحرب ضد الإرهاب هي ليست حرب جيوش بل في جلها حرب استخباراتية ومعلومات وهنا يبدو مكمن الخلل الأكبر والقاتل، حيث بات الإرهاب هو الذي يمسك المبادرة ويختار التوقيتات والعمليات النوعية، فهناك من يسميه في إعلامه حرب الجسور إلى حرب البنايات إلى حرب السفارات إلى المقرات الحكومية إلى الوزارات إلى حرب المفخخات والأحزمة الناسفة المستمرة دوما، ومؤشر تصاعد الإرهاب وامتلاكه للمبادءة أن القادة الأمنيين كانوا يقولون إن الفترة الممكنة بين عملية نوعية وأخرى لا تقل عن أربعين يوما يحتاجها الإرهاب لتنظيم صفوفه وتخطيطه والمناقلة في قدراته وتركيزها، في حين أنه في الأسبوع الماضي وقعت عمليتان نوعيتان وبفاصل يومين، كما أن فشل المنظومة الأمنية الاستباقية تدلل عليه نسبة العمليات الإرهابية المجهضة إلى المتحققة، وهي نسبة مختلة بشكل صارخ لكفة نجاح الإرهاب. وهنا نصل إلى الشق الثاني وهو عندما يصل الإرهاب إلى الشارع ويشرع في تنفيذ عملياته، فالزائر بغداد ومشاهد نقاط التفتيش الثابتة والطيارة في كل الشوارع وتلك مع الكتل المطوقة للمناطق، يظن نفسه في بلد أفريقي صبيحة انقلاب، فاعليتها فقط بعد كل انفجار كبير هي في تضييق الطرق والتشديد على تنقل المواطنين بجعل حياتهم وتنقلاتهم اليومية من وإلى أعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم قطعة من المعاناة والجحيم. لنترك «الطموح» بقدرة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية على التنبؤ بأسلوب عمل الجماعات الإرهابية المتوقع وإجهاضه وقطع الطريق عليه. ولنكتف فقط بالذي يقع بأن نمنع تكراره، وهذا ما عجزت أيضا عنه الأجهزة وبشكل مريع. صبيحة يوم الانتخابات فخخت أربعة بنايات وتم تفجيرها، وهذا تكتيك كان قد لجأ إليه الإرهاب سابقا. لكن أن يعاد نفس السيناريو وبنفس الأسلوب وبنفس كم المآسي والضحايا وفي غضون شهر واحد عندما ينجح الإرهاب ثانية ويفجر سبعة بنايات من دون أن نضع ذلك في الحسبان ونمنعه، هنا الطامة الكبرى. دولة مضى عليها سبع سنوات وكأنها بدو رحل، لا نظام تسجيل لاستغلال واستئجار البنايات يتثبت من شخصية المستأجر ويسائل الذي يخرقه ويحول دون أن تستأجر محلات وشقق من مجهولين يخزنون فيها المتفجرات ويفجرونها عن بعد في أي توقيت يختارونه. آلاف السيارات المفخخة انفجرت في العراق وبما يعادل أضعاف ما انفجر منها في كل الكرة الأرضية، ولم ننجح إلى الآن في تثبيت لوحات دائمة للسيارات للتعرف على عائديتها وانتقال حائزيتها ووضع عقوبات على من يتساهل أو يشترك في سوء استخدامها. بل إلى الآن لم نوجد حتى منظومة لمنح إجازات السوق أو نقل ملكية السيارات في دوائر المرور. النظام السابق الذي نلعنه كل صباح ومساء وفي ظروف حصار وضعف في الموارد ولم تصله التقنيات الحديثة ولا عرف الحكومات الإلكترونية ولا غيرها كان يصل في ساعات قليلة إلى الفاعلين في كل عملية اختراق أمني. ربما يقال إن ضبط الأمن سهل في الأنظمة الشمولية وإنه عصي على الاختراق لكونه يبادل ويردع تدخلات الجوار بأخرى مماثلة. وهذا صواب تماما ولكن صحيح أيضا أن حرفية الأجهزة الأمنية لا تتغير بتغير الأنظمة.

لذا فحرف اتجاهات المساءلة يعبر عن اختلال واستهانة بدماء العراقيين التي لا تكف عن النزف رغم الانتقالات الديمقراطية وتداول الحكومات بل إنها باتت وبالا عليهم، وإمعانا عليهم أن لا يحرقوا البخور للقتلى من أحبتهم بل للقيادات الأمنية والحكومية لكي لا يتهموا بضعف الوطنية.