سلام فياض رجل دولة مؤسس

TT

حادثة اختفاء في الأيام الماضية اتسمت بالغموض والفجائية، حدث ذلك في مدينة سرت بليبيا أثناء انعقاد مؤتمر القمة العربية الأخير، وذلك عندما اختفت جملة «الدولة الفلسطينية» من على ألسنة كل المتحدثين في المؤتمر، وكل المعلقين السياسيين، بل وكل أوراق الصحف وكاميرات وميكروفونات أجهزة الإعلام المرئي والمسموع. وكأنما حدث ذلك بفعل فاعل خطط له من قبل ونفذه في إتقان وصرامة.

غير أن اختفاء هذه الجملة - المصطلح، لا يعني اختفاء القضية الفلسطينية التي ظلت قائمة في مكانها على ألسنة المتكلمين، محتمية بحروف الكلمات المنطوقة والمسموعة والمقروءة، مع ملحقاتها الشهيرة بالطبع من تطبيع وعدم تطبيع ومقاومة وعدم مقاومة وطبيعة المقاومة واستسلام وعدم استسلام وخلاف ذلك من المقبلات التي لا تخلو منها عادة مائدة القضية الفلسطينية.

غير أن هذه القضية عادت للظهور فجأة بقوة في جريدتين عربيتين على الأقل، «الحياة» و«الشرق الأوسط» (4 أبريل/ نيسان 2010) وذلك عندما صرح السيد سلام فياض بأن شهر أغسطس في العام القادم سيشهد ميلاد الدولة الفلسطينية. وأنا أصدق هذا الرجل؛ فقد حباني الله بموهبة التعرف عن بعد على رجال الدولة، من السهل عليّ التمييز بين الموظف العام والزعيم والرئيس المنتخب أو المعين، والفرق بينهم وبين رجل الدولة المؤسس «The founder» هذا رجل دولة مؤسس ويتم التعامل معه على هذا الأساس. هو رجل شجاع لا يغازل العواطف الغوغائية في الشارع ولا يستسلم للكليشيهات التي أعاقت ظهور الدولة حتى الآن. وهو على وعي بوظيفة الدولة في العصر الحديث وحتمية وجودها لحماية الفرد ورفاهيته.

لقد كتبت كثيرا في مصر مطالبا بإعلان الدولة الفلسطينية والبدء فورا في تجسيدها على الأرض، ولعل آخر ما كتبته كان على صفحات هذه الجريدة تحت عنوان «الدولة الفلسطينية.. الآن وليس غدا» وقبل أن تتصور أنني أكثر حماسا للدولة الفلسطينية من الفلسطينيين أقول لك بكل وضوح، أنا كمواطن مصري، أريد دولة ديمقراطية على حدودي تهتم وتحافظ على حقوق مواطنيها وحقوق الآخرين، وبعيدا عن فانتازيا أفكار الكفاح المسلح، وبعيدا عن كل الكلمات الكبيرة التي مشت بالفلسطينيين وتمشي بهم في طريق الضياع، أنا على يقين من أن جماعة من المغامرين على حدودي لن تجلب لهم ولي وبقية سكان المنطقة سوى المتاعب، وما هو أكبر وأخطر، وعند هذه النقطة أريد التنبيه إلى خطأ شائع وممتع عند شريحة كبيرة من مثقفي الفضائيات الهواة، وهو أن الهدف النهائي لأميركا وإسرائيل هو تفتيت المنطقة إلى دويلات وكانتونات. ما أبعد هذا التصور عن الواقع والصحة، أميركا وإسرائيل تدركان جيدا أنه في غياب دول متماسكة في المنطقة، تصيبهما وتصيب العالم كله أضرار بالغة، على الأقل لن يكون القراصنة صوماليين فقط.

إنني أطلب من كل طلاب الديمقراطية والحرية والسلام في المنطقة العربية وخارجها أن يساندوا هذا الرجل في مجهوده لاستكمال تنظيماته وتشكيلاته الإدارية لإقناع العالم كله أن الفلسطينيين قادرون على صنع دولة حرة ذات سيادة.. القضية في جوهرها قضية تحرر وطني ربما يستغرق مائة عام، أما بغير إقامة الدولة فمن الممكن أن يستغرق هذا الصراع أكثر من ألف عام من الدماء المسفوكة ينتهي بضياع فكرة الدولة ذاتها وخاصة بعد تديين القضية لصالح فئة من الناس على الجانبين تستخدم الدين لتحسين ظروفها في دنياها كفئة أو جماعة أو نظام.

وعلينا أن نتنبه قبل فوات الأوان أن البحث عن سلام «شامل وكامل وعادل ونهائي» يعني بالضبط انعدام الرغبة في الوصول لسلام من أي نوع. يكفي الوصول إلى أي نوع من السلام يتم فيه موافقة الطرفين على المزيد من العدل كل يوم، المطلوب هو اتخاذ قرارات من الطرفين تخلق كل يوم واقعا جديدا يكون المواطن الفلسطيني فيه أفضل حالا لأنه الطرف الأضعف، في كل يوم لا بد من الوصول إلى اتفاق «جزئي» يزيل عدة أمتار من الحائط العازل ويكفل المزيد من الأمن للمواطنين والمزيد من حرية المرور والتجارة.

لقد عادت الدولة الفلسطينية للظهور على الأرض بقوة، بكلمات عملية صادقة من رجل دولة شجاع يفكر في مصلحة شعبه ويبحث عن أقصر الطرق لتحقيقها.

أما عشاق الكسل العقلي وضعف الهمة، فلن يسكتوا بالطبع، وهو ما حدث بالفعل، بعد ساعات من تصريحات سلام فياض، من الجبهات المضادة بهدف منعه حتى من الوصول إلى نقطة البداية. السلام سلاح في حد ذاته، وعندما تمتلك الرغبة الحقيقية في السلام فأنت في الواقع تمتلك أقوى أسلحة الميدان. في اللحظة التي يدرك فيها عدوك أن ما تقوله هو نفسه ما تفعله فسيتولد لديه أخطر عنصر في العلاقات البشرية وهو الثقة، وهذا الرجل الذي لا أعرفه عن قرب، جدير بالثقة.

فمن تصريحاته الأخيرة أدرك أنه ينتمي لذلك النوع النادر من الثوار القادرين على التحول إلى رجال دولة، تماما مثل السادات وبيغن اللذين استطاعا في وقت وجيز بمساعدة أميركا، الوصول إلى اتفاقية سلام احترمها الطرفان بنفس القدر الذي احترمها به العالم. حكاية القدس كعاصمة أبدية لإسرائيل لا يجب الوقوف أمامها كحائط سد، من الممكن أن تكون القدس، ويجب أن تكون، عاصمة لدولتين وشعبين، هذا هو ما يؤمن به عدد كبير من المثقفين في إسرائيل وعلى رأسهم عاموس عوز الروائي الإسرائيلي الكبير.

الصراع في المنطقة الآن يدور بين الدولة ذات المؤسسات الدستورية في جانب وبين الجماعات الثورية المغامرة في الجانب الآخر، هو في جوهره صراع بين الواقع بكل معطياته على الأرض، والفانتازيا الثورية التي لا تأخذ في حساباتها حياة البشر، وهو ما يدفع أيضا هذه الجماعات إلى أن ترى الصراع بينها وبين الدولة بمؤسساتها المعروفة مسألة وجود بالمعنى البدائي للكلمة، أي أنهم على يقين بمقولة: إما أن توجد الدولة أو يوجدوا هم، أي أنه على أحدهما أن يفني الآخر، وهى معركة محسومة بالطبع لصالح الدولة على المدى القريب والمتوسط والبعيد.

سلام فياض سيخوض الآن معركتين متوازيتين، معركة التفاوض الشاق مع إسرائيل، في ذات الوقت الذي يخوض فيه معركة أخرى مع جماعة حماس التي حبست نفسها في قطاع غزة وسجنت معها مستقبل الشعب الفلسطيني وعليها أن تفرج عنه.

عليها أن تتنبه أنه في اللحظة التي يتم فيها إعلان الدولة الفلسطينية سينحسر عنها كل رداء للشرعية، وسيكون من السهل على الفلسطينيين والعالم كله أن ينظروا إليها بوصفها جبهة متمردة خارجة عن الدولة وفاقدة للشرعية. إنها فرصة إضافية يتيحها الزمن لقيادات حماس للعودة لصفوف الوطن، أو لإعادة الوطن إلى مكانه على الخريطة.

في كل معركة على وجه الأرض توجد سرايا معاونة وخطوط خلفية تمد الخطوط الأولى بالذخيرة والسلاح والرجال أيضا، وهو الدور الذي لا بد أن تقوم به كل القوى المستنيرة في مصر والأردن وبلدان الخليج التي أقامت علاقات تجارية مع إسرائيل، وهو دعم القيادة الفلسطينية بالانتقال فورا إلى الضفة والقدس لعمل مشاريع استثمارية هناك.

لست أتكلم عن أعمال مساعدات خيرية، أنا أتكلم عن مشاريع استثمار حقيقية على الأرض، مشاريع ناجحة ورابحة. مرة أخرى، إنني أتكلم عن القوى المستنيرة، الوسطاء يمتنعون، الضعفاء يمتنعون، الذين يخشون تدنيس باسبوراتهم بتأشيرة إسرائيل عليهم الانتظار إلى أن يحصلوا على تأشيرة فلسطينية، وإن كنت أعتقد أن الحكومة الفلسطينية ستقول لهم.. لن نسمح لكم بدخول هذا البلد بعد أن تخليتم عن مساعدته عندما كان في حاجة إلى دعمكم ومساعدتكم.