وتقوم على الجائزة لجنة متخصصة؟

TT

القيادات السياسية المختلفة في أقطارنا العربية وبعض رجال الأعمال ممن يريدون أن يكون لهم اسم في عالم الثقافة، أو يريدون تخليد ذكراهم، يطلقون كل يوم جائزة ثقافية، جائزة للكتاب وأخرى للكراسة، وثالثة للصحافة والنشر، وأخرى للقدس، إلخ.. إلخ. وكل جائزة - حسب قولهم - تقوم عليها لجنة متخصصة لانتقاء الأعمال المشاركة والشخصيات الفائزة.

الحقيقة التي يعرفها الجادون منا هي أن المجموعات المتخصصة في الآداب والعلوم المختلفة، والقادرة على تحكيم الجوائز بحيادية علمية، قليلة جدا، ولا تتجاوز أصابع اليد الواحدة في كل مجال. وقد تستوعبهم لجنة تحكيم جائزة واحدة. وكلما قرأت عن الجوائز وعن المحكمين فيها، وجدت اسما واحدا أو اثنين ممن ترقى إمكاناتهم العلمية إلى ما يسمى لجنة اختيار وتحكيم، وما عدا ذلك فهم إما من «شلة» صاحب الجائزة أو أصدقائه، أو أسماء اعتاد عليها العرب أن تكون جزءا من لجنة تحكيم، سواء يعرفون أو لا يعرفون، المهم أننا نسمع أنهم أعضاء في الجائزة الفلانية، فلماذا لا يكونون أعضاء في جائزتنا أيضا. أو بعض الأسماء الغربية، وهنا الطامة الكبرى، مجرد أسماء غربية لزوم الشياكة ممن لا يقرأون العربية، دعك من كتابتها أو حتى الحديث بها أو قدراتهم على تحكيم جائزة وقراءة مئات الأعمال الأدبية أو الثقافية.

للغرب باع طويل في العلم وربما لا يستلزم ذلك إلماما بالعربية، ولكن في الأدب والسياسة والصحافة والعمارة، لا بد أن يكون المرء ملما باللغة التي تكتب بها الكتب.

أتيحت لي فرصة العمل في الكثير من الجامعات الغربية الكبرى، وتعرفت من خلال مشاركاتي في المؤتمرات المتعددة على عدد غير قليل من الغربيين ممن يتصدون لمعرفة العالم العربي من مستشرقين في هارفارد وفي برينستون وفي أكسفورد وكمبردج، لم أجد فيهم من يتحدث العربية بالطلاقة التي تؤهله للبحث فيها، ثقافة، وقرآنا وسنة، ومخطوطات قديمة. هناك مظهر المعرفة وهالة تضيفها أسماء الجامعات التي يعملون بها عليهم، ولكن ليس هناك معرفة بالعالم العربي، بالدرجة التي تماثل معرفة المئات والآلاف منا للغة الإنجليزية وآدابها، ومع ذلك لا ندعى لتحكيم جوائزهم، ولكنهم يدعون لتحكيم جوائزنا.

فكيف لمن لا يعرف اللغة العربية أن يكون في لجنة تحكيم الرواية العربية؟ إنها عقدة الخواجة ونحن مسؤولون عن ذلك تماما، وليس الغربيون.

لدينا مرض في العالم العربي اليوم لا يمكن تسميته إلا بمرض مركب النقص. فقد كنت في واحدة من الدول العربية، من أجل عقد مؤتمر عن الأمن الإقليمي، وكان هدفي استقطاب عدد من الباحثين من المنطقة ممن يعرفون أحوالها بشكل جيد، بهدف إثراء النقاش العربي عن المنطقة، ولما تحدثت إلى ممثل الدولة المضيفة وعرضت عليه الفكرة، قال لي لا بد أن يكون في المؤتمر أناس بيض، أي خواجات، لأننا نحب أن يكون المؤتمر مطعما بالخواجات، ولما كنت أعرف أنني أهرب من وجود الخواجات لأنهم لا يفقهون الكثير في شؤون المنطقة إلا عبارات تبدو جميلة لأنها قيلت بالإنجليزية، ولكنها خالية من المعنى، لم يكن أمامي سوى إلغاء فكرة المؤتمر، لأن ذلك من وجهة نظري كلام فارغ ويدعو إلى الحزن الشديد على حضارة انكسرت إلى هذا الحد.

بالطبع مقابل هذا الانكسار الشديد الذي يدعو إلى السيطرة الغربية حتى لو كانت لا تفهم في الأمر المطروح، هناك الفئة الأخرى المتطرفة عندنا التي ترفض الغرب بقده وقديده، وهي صورة مرآة للمنكسرين، ولكن في الاتجاه المعاكس، وهذا أمر لا أطيقه أيضا.

السبب في هذا الحديث هو اللغط الذي حدث حول جائزة بوكر العربية في عامها الثاني، وكذلك أيضا الاحتجاجات التي منيت بها جوائز الصحافة، واستقالة بعض الأعضاء منها، احتجاجا على عدم الموضوعية وقلة المهنية.

فيما يخص جائزة بوكر، أتيحت لي فرصة التعرف على بدايات الشراكة بين مؤسسة الإمارات وممثلي الجائزة في لندن، ولكن بشكل غير مباشر أو من طرف واحد. سمعت يومها من الرجل القائم على تلك المفاوضات. (يومها كان القائم على مفاوضات هذه الجائزة شاب متميز من الإمارات العربية المتحدة تخرج في جامعة أكسفورد العريقة، يجيد الإنجليزية والروسية كما أهلهما، ولكن لا يجيد العربية بذات الدرجة. هذا الشاب هو الذي كان يدير مؤسسة الإمارات التي تقوم على الجائزة بالشراكة مع بوكر. أصبح فيما بعد صديقا بعدما ترك منصبه كمدير للمؤسسة، ولحسن حظه أنه عين سفيرا لبلاده لدى واحدة من الدول الكبرى). تحدثنا كثيرا في الأمر، ولكنه كان قد اتفق على ما اتفق عليه وكون لجنة أمنائه من العرب والإنجليز بالسمعة، على الأقل في حالة العرب، لأنه يعرف الأدب الإنجليزي ولا يعرف الأدب العربي، ولما قيل له إن فلانا من مصر رجل جاد وإن فلانا من لبنان أحسن، لم يكذب خبرا ودعا هؤلاء إلى مجلس الأمناء، ولا عيب في ذلك، فقد كان رجلا مكلفا بمهمة ونفذها في حدود معرفته.

أما البقية الباقية، فكانت بعد تركه للمؤسسة، التي أسندت إدارتها إلى أميركي كان يعمل في مؤسسة فورد الأميركية، مما أغضب صاحبنا يومها، ولكنه فيما بعد - كما ذكرت - أسند إليه منصب سفير لبلاده لدى دولة عظمى، ولكن ليست تلك هي القصة، القصة أن مسألة مجلس الأمناء والمحكمين كذلك الذين اختارهم صاحبنا يومها لم يكونوا على المستوى، ولكن بكل تأكيد أفضل من اختيار رجل أميركي، أو إنجليزي لإدارة هذا الأمر.

ليس هذا شأننا، ولكن شأننا هو الجوائز العربية، التي أصبح ينظر إليها في الغرب على أنها ظاهرة بذخ وعلاقات عامة، فيها سوقية في محاولة شراء أي شيء وكل شيء، أكثر من كونها قيمة أدبية في حد ذاتها. إذن المشكلة برمتها تكمن في النوايا الحسنة ولكن دونما جدية في التنفيذ.

غالبا ما يتهمنا القراء بأننا نعرض المشاكل ولا نعرض الحلول، وهنا أجدني في هذا السياق، أقترح حلا؛ من خلال دعوة أصحاب الجوائز من العرب إلى أن يجتمعوا لتأسيس مؤسسة على غرار الأكاديمية السويدية التي تمنح جائزة نوبل، أو على طريقة أكاديمية العلوم الأميركية، للقيام على جائزة كبرى محترمة تليق بحضارة العرب، بدلا من تلك الجوائز المبعثرة معدومة القيمة.

في الجائزة المشتركة – المقترحة - يكون المحكمون ومجلس الأمناء ممولين من تلك القيادة التي تدعو إلى الاحترام، حتى إذا ما فاز أحدنا بجائزة كان هو وأصدقاؤه، على الأقل، أول من يحترمونها، ولكننا والحال هكذا لا نحترم الكثير من الجوائز العربية لأنها موشومة بوشم الشللية والصداقات والمعارف، لا بالموضوعية والجدية.

إن لم يتفق العرب على مؤسسة واحدة كالأكاديمية السويدية، (والاختلاف بين العرب هو السمة السائدة، اختلاف في التوجه لا اختلاف في الرأي، فالعرب لا يقبلون اختلاف الآراء ولكن يختلفون فيما بينهم من أجل الزهو وأحيانا يكون اختلافا أساسه توزيع الغنائم)، فإذا كان الأمر كذلك، ومفروض حتما أن نختلف، فليقم العرب مجتمعين على بناء ثلاث جوائز محترمة من ثلاث مؤسسات محترمة، وليكن تقسيمها جغرافيا، فتكون هناك جائزة أو أكاديمية باسم مجلس التعاون الخليجي، وأخرى لبلاد الشام ومصر وفلسطين، وثالثة للمغرب العربي والسودان، مثلا.

الجوائز العربية بالطريقة القائمة سبة في جبين الجوائز، ليس كلها بالطبع، ولكن أغلبها بالتأكيد، فهل نعيد النظر في هذه المسخرة التي بدأت تسود حياتنا الثقافية، وأصبحت المشاركة فيها أقرب إلى برنامج «من سيربح المليون» منها للجوائز المحترمة؟ إن بداية احترام العالم لنا تبدأ من احترامنا لأنفسنا.