أوطان وشعوب.. أم أثمان بخسة لصفقات؟

TT

«أن ينفض المرء يديه من نزاع يدور بين القوي والضعيف يعني أنه انحاز إلى القوي وليس أنه محايد»

(باولو فريري)

السذّج من راصدي السياسة يفاجأون بمتغيّراتها كل يوم، لكن من فهِم مغزى السياسة وقرأ عنها وتابع سيَر رموزها والأسس التي ترتكز عليها يتحصن ضد المفاجآت.. وينأى بنفسه عن الشعارات المبدئية الكبيرة، التي يندرج طرحها وتسويقها ضمن مستلزمات «الشغل».

وإذا كان للعاقل منا ترك السّاسة الليبراليين الاعتذاريين أو المثاليين جانبا، فلنا في مقولات ساسة الغرب المحافظين خير مصدر يوسّع مداركنا حول جوهر اهتمامات القوى الكبرى في تعاطيها مع باقي العالم وشعوبه. ومن هذه المقولات الخالدة كلمات عميد المحافظين البريطانيين ورئيس الوزراء الداهية بنجامين دزرائيلي «ليس لدينا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة بل مصالح دائمة»، ومقولة الرئيس الأميركي الجمهوري السابق كالفن كوليدج (حكم بين 1923 و1929) The business of America is business أي «إن شغل أميركا الشاغل هو المصالح التجارية والاقتصادية».. والمفارقة أن «لا سياسة» كوليدج الاقتصادية أورثت أميركا والعالم «الكساد الكبير».

هنا يتبخّر أي كلام آخر عن «السياسة الخلوقة» التي حاول أن يتدثر بها عدد من القادة في طول العالم وعرضه قبل أن يتبيّن أن النية الحسنة أو الاعتبارات التسويقية المرحلية شيء.. والواقع على الأرض شيء آخر مختلف تماما.

اليوم عندما ننظر إلى واقع الشرق الأوسط المُزري نجد أصدق صورة للتطبيق العملي لما نتكلم عنه. فأمامنا، وسط «هيصة» الانتخابات العراقية والسودانية، ثم الانتخابات البلدية (المحلية) اللبنانية، وفي الخريف المقبل الانتخابات الرئاسية المصرية، ثم الإحباط الفلسطيني المتزايد، وضع لا يبشر بالخير إطلاقا.

أمامنا بالفعل حالة عجز عامة، ودول مهددة فعليا بأن تتحول إلى «دول فاشلة»، بينما تحيط بالمنطقة وتخترقها مطامع الطامعين - بتواطؤ داخلي، طبعا - أخطار كبرى، وتعصف بها آيديولوجيات متطرّفة متشنجة، خارج الزمن والمنطق، تتغذى من الجهل المقيم والشعور المترسّخ بالمهانة والإذلال. وهذا تحت أنظار مجتمع دولي.. له مصالحه الخاصة، لكنه مع ذلك، ولخدمة المصالح القومية لمكوناته، روّج ولا يزال يروّج لشعارات ومعايير يبدو من تراكم التجارب.. أنه آخر من يؤمن بها.

عندما تولّى «المحافظون الجدد» زمام الأمور في واشنطن في عهد جورج بوش «الابن» كانت لديهم نظرة جلية - من دون أن تكون بالضرورة مشتركة مع سائر الأميركيين - إلى ما كانوا يصنفون بين «معسكر الخصوم» و«معسكر الأصدقاء». وكانت لديهم أيضا وصفات يعرفون مقاديرها جيدا، ولهم أساليبهم في تمرير مشاريعهم عبر المؤسسات التشريعية والتنفيذية الأميركية.

كتلة «المحافظين الجدد» في نهاية المطاف مجرد واحدة من كتل النفوذ اليمينية القوية المرتبطة بشبكة واسعة من المصالح الاقتصادية والسياسية داخل الولايات المتحدة وخارجها. غير أن ما يميّز معظم كتل اليمين الأميركي المهيمن راهنا على الحزب الجمهوري، بالمقارنة مع القوى الليبرالية المناوئة لها، أنها أكثر عملية أو «براغماتية» في ممارساتها، وأشمل نظرة إزاء خدمة غاياتها الحيوية، وأكثر واقعية - وأقل أخلاقية - في ترويجها الشعارات العريضة التي تستخدمها «أسلحة» ضد خصومها من دون أن تكون مقتنعة بها.

في ما يخصّنا، في الشرق الأوسط، ها هي إيران بالأمس أعلنت، في «يوم نووي» استثنائي، تطويرها قدراتها التخصيبية لتوليد ما يكفي لستة مفاعلات جديدة. وهذا الكلام الصريح، لا شك، رسالة موجهة في وقت واحد إلى: الداخل الإيراني لإضعاف أي معارضة داخلية استقواءً بتصاعد الحمية القومية، وجيران إيران لكي «يعدّوا للعشرة» قبل سماحهم باستخدام أراضي دولهم في أي ضربة قد يخطر لواشنطن تسديدها لإيران، وللمجتمع الدولي لكي يهدئ من الاندفاعة الأميركية نحو التصعيد. ولكن في هذه الأثناء، لا يظهر أن واشنطن، عبر رسائلها المقابلة المتناثرة والمتناقضة، عازمة على اعتماد خيار أقسى من عقوبات قليلة الجدوى وعديمة المعنى. وهذا يعني عمليا كسب الوقت لترتيب بيع «سيناريو» التعايش مع «إيران نووية».. تمهيدا لتقاسم المنطقة معها.

من جهة ثانية، قلّما اكتسب الحرص الإيراني على الاستحواذ على القدرات النووية مبررات أقوى حجة من السياسة الإسرائيلية الحالية التي ما زالت واشنطن تتعامل معها كنوع من المنغّص المزعج الذي تأمل أن يزول لتتسهل الأمور. إلا أن الإدارة الأميركية الحالية، التي اتهمها أحد غلاة اليمين الإسرائيلي بأنها «معادية للسامية» (!) قد لا تجد لنفسها متسعا من الوقت بعد بضعة أشهر من اليوم لممارسة أي ضغط على تل أبيب.. مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.

ولكي تكتمل الصورة تدخل تركيا على الخط بذكاء، برغم مشكلات قيادتها مع «العسكر»، مستغلة العدوانية الإسرائيلية والتمدّد الإيراني والعجز العربي المطلق، فتطرح صيغة مهذبة لممارسة النفوذ الإقليمي في منطقة كانت هي القوة المهيمنة عليها حتى 1918.

التقاطع أو التنافس الثلاثي الإسرائيلي - الإيراني - التركي على أشلاء منطقة عربية وصلت إلى حضيض من الوهن يتطوّر إقليمي مهم جدا، لعله الأهم والأخطر منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. وهو قد يؤدي إلى تضحية المجتمع الدولي ليس فقط بوعود «الديمقراطية» و«الحرية» و«حقوق الإنسان» و«رفض الوطن البديل».. إلى آخر المعزوفة، بل قد يعني أيضا التضحية بكيانات وثقافات سياسية في صفقات قذرة رغم الإنكار المتكرّر الممجوج الذي استمع إليه خلال العقود القليلة الماضية ملايين العراقيين واللبنانيين والفلسطينيين والأردنيين. ولكي لا يظل هؤلاء وحدهم في العراء، فإن الأخطاء في ممارسة السلطة، والتدخلات الخارجية المفضوحة، والعدالة الدولية المتقاعدة.. كفيلة بأن ينضم إليهم قريبا إخوتهم في السودان واليمن.