مهنة.. ما أتعسها من مهنة!

TT

كتب لي أحد القراء من بريطانيا يتحداني بأن أكتب عن ديمقراطية الهند، ويقول إنني لم افعل ذلك لأنها بلد فقير لا يدفع. لا أدري يا عزيزي القارئ ماذا تعمل في بريطانيا. ربما تمارس الطب أو القانون أو الهندسة أو أي مهنة مشابهة. إن كنت واحدا منهم فهل تكرس عملك للمعوزين الذين لا يدفعون أجرة لك؟ هل تقوم بالدفاع عن متهم، أو إجراء عملية لمريض لا قدرة له على دفع أجرك؟ لماذا ننتظر من الكاتب فقط القيام بعمله مجانا، ونعتبره عيبا أن يقبض من أحد ثمنا عن تأليف كتاب؟

يعتز كثير من المحامين بنجاحهم في تخليص مجرم قاتل من المشنقة. ونمجد في الطبيب عمله الإنساني في معالجة عدو جرح في مهاجمة بلاده أو تركيب يد صناعية لإرهابي فقد يده في عملية إرهابية، عالما أنه ربما يستعمل يده الجديدة في القيام بعملية إرهابية جديدة. قواعد المهنة تقتضي من المحامي أن يدافع عن أي متهم مهما كانت جريمته وحتى إذا كان يعلم بأنه قام بها فعلا. وإنسانية الطب تقضي بمعالجة أي جريح أو مريض حتى لو كان عدوا أو مجرما. والمهندسون صمموا كل هذه السجون والمعتقلات والمتفجرات وأدوات التعذيب وقصور صدام حسين ولم يحاسبهم أحد على فعلهم. ولكن للكاتب حكاية أخرى. عليه فقط أن يميز بين زبائنه. عار وشنار أن يمدح أو يدافع عن حاكم مستبد أو نظام ديكتاتوري أو مفكر مغضوب عليه.

يا عزيزي القارئ المتحدي، أنا قضيت خمسة أعوام في بحث وكتابة كتابي «تكوين الصهيونية». رفض الإنجليز نشره. والناشر العربي دفع لي 130 باوندا فقط عن عمل خمسة أعوام. ولا أعتقد أنك قرأته أو سمعت عنه أو عرفت بوجوده. لا ألومك ولا ألوم الناشر، وإنما ألوم أخي الكبير إحسان. لم يتقدم للمحكمة بعريضة لوضع حجر علي بدعوى السفه وقصر العقل ويطلب تعيين وصي علي يدبر حياتي. فأي قاض شريف لا يتردد في فرض الحجر والوصاية على أي امرئ يبيع خمسة أعوام من حياته بمثل هذا الثمن. لم يضعوا حجرا علي فتماديت وقضيت سنتين أخريين في كتابة روايتي «على ضفاف بابل» ولم أقبض عنها فلسا واحدا. وأنت يا عزيزي دقلة تريد مني إضاعة خمسة أعوام أخرى في الكتابة عن ديمقراطية الهند.

مهنة الكتابة مهنة تعيسة. وأصبحت تعاستها جزءا من تعاسة أوطاننا العربية. فنصيبنا من إصدارات الكتب لا يتجاوز 4% من إصدارات المواطن الإنجليزي، و5% من إصدارات المواطن الإسباني. وبينما نصيب الكتاب هو زبون واحد من بين 491 في بريطانيا و713 في إسبانيا، لا يحظى الكتاب العربي بغير واحد من أصل 19150 شخصا. يعني ذلك هيمنة الجهل على أمتنا ومستقبلنا. ومن أسباب ذلك كساد مهنة البحث والكتابة والترجمة. فليس بيننا الكثيرون ممن ابتلوا بالسفه وقصر العقل الذي ابتليت به في الانتقال من عملي كمحام إلى امتهان مهنة الكتابة لأمة 60% منها أميون و99% متخلفون يصدقون قارئة الكف والفنجان ويكذبون كاتب نظرية التطور وأصل الأنواع.