زحمة المدن ووحدة الإنسان!

TT

الحركة داخل المدن الكبرى غدت أمرا يقصر العمر، فأنت تحتاج إلى أن تقضي جزءا كبيرا من يومك في الشارع، حيث تتحول العربات إلى سلاحف تزحف ببطء، لا فرق بين السيارات الفارهة أو التي بلغت أرذل العمر، هذه المدن أو الغابات الإسمنتية تتحول إلى علب سردين، تضغط على أعصاب الناس، وتؤثر على سيكولوجيتهم، وطرائق تفكيرهم، وأنماط شخصياتهم، وأصبح من المعتاد أن يتحول الطريق إلى ساحة للانفعالات والعنف والتوتر، فالأوضاع التي بلغتها بعض المدن تعكس أخطاء جوهرية مبكرة في التخطيط، فلم يراعَ حجم النمو، ولا الهجرات الداخلية والخارجية، وتركت الأمور تجري في أعنتها، وكان الناتج مربكا على مستوى توفير الخدمات، ونشوء العشوائيات، وانسيابية الحياة، وصحة الإنسان.

والعيش في الزحام له مخاطره الأمنية والصحية والنفسية والاجتماعية، ففي مدن الزحام تكثر الجريمة، وترتفع المخاطر الصحية، والتوترات النفسية، ويتعذر التواصل الاجتماعي، ويتعطل التفكير، ويجف الإبداع، ويضيق الأفق. ويكمن الحل في تنفيس احتقانات المدن، بإيجاد مصادر اقتصادية وفرص وظيفية خارج المدن المتخمة بالناس والمركبات والضجيج لتوسيع رقعة الحياة، وإعادة تنظيم الجموع البشرية، وتوازنات المدن.

ويصف الكاتب الراحل أحمد الربعي مدينة مزدحمة فيقول: «كلما دخلتها شعرت باختناق! هناك معركة ضخمة في تلك المدينة تستهدف قتل الأكسجين! هناك مؤامرة على الحدائق والشجر والزهر»، وهذا الوصف ينطبق على كل مدن الزحام، ففي الزحام ينتحر الجمال، وتهاجر العصافير، وتختفي الشمس خلف ظلال الأبراج الإسمنتية، وفي الزحام يزداد شعور الإنسان بالوحدة، وتتعثر روابط الجوار.

ومما يزيد اختناقات المدن الكبرى في العالم الثالث أنها لا تمتلك مشروعات نقل عام على درجة من الكفاءة، فتجد الناس بمركباتهم الصغيرة يتصارعون على خطوط الإسفلت المحدودة يوميا من أجل الوصول إلى مقار عملهم ومصادر دخلهم. ويقول لي أحد الذين يعيشون في واحدة من هذه المدن إن جُلّ طاقته اليومية يستهلكها الطريق، ولا يتبقى من الطاقة لأداء دوره الوظيفي سوى النزر اليسير.

وها هي الزحمة تطفو على سطح الغناء:

«زحمة يا دنيا زحمة

زحمة وتاهوا الحبايب

زحمة ولا عادشي رحمة

أجي من هنا زحمة

وأروح هنا زحمة»

كفانا الله وإياكم زحمة المدن وغربة الإنسان.

[email protected]