ظاهرة الحنين إلى العمل السياسي السلمي

TT

ما الذي يجمع بين سلام فياض. سيف الإسلام القذافي ومحمد البرادعي؟!

إذا سألت القذافي الأب لقال لك إن ما يجمع بينهم «أبجدية اللغة». لكن العلاقة هي أعمق من ذلك بكثير. هم أنفسهم لا يعرفون أنهم يمثلون الحنين إلى العودة، إلى العمل السياسي السلمي الذي راود جيل الاستقلال العربي في الأربعينات.

ما سبب هذا الحنين؟ السبب فشل «الجهاد» الحربي في تحرير فلسطين. بات هَمُّ الجهادية الإخوانية في غزة حماية الهدنة مع إسرائيل من الصواريخ! انتهت جهادية حزب الله إلى جلب قوات احتلال دولية للجنوب الشيعي، فيما انكفأ الحزب إلى الداخل، ليفرض سلمه المسلح على الطوائف «التائقة» إلى العمل السياسي السلمي، بعد حرب أهلية ضروس. السبب الآخر والأبعد للحنين، هو إخفاق النضال القومي في تحقيق الوحدة القومية. ثم انتهى النضال بالهزيمة العسكرية المُرَّة أمام المشروع الصهيوني.

غير أن الأداء السلمي للبرادعي وفياض والقذافي الابن ما زال خجولا. لا هم يدركون أهميته وأهميتهم. ولا الرأي العام العربي اكتشف الظاهرة الجديدة. فهو مُغْمَى عليه، بعد الجرعات المشبعة بثقافة العنف. ومشغول بفتاوى الحلال والحرام.

أيضا وأخيرا، يكتشف المجتمع المدني العربي أن المرجعية «الجهادية» الساكنة في المغاور، لا تكفّر وتجاهد المجتمع العالمي فحسب، إنما أيضا تسفك دماء العرب والمسلمين في العراق. أفغانستان. باكستان. الصومال. المغرب العربي، بحجة أسلمتهم وإنقاذهم من «الجاهلية» الحداثية.

بديهي أن يكون الإصلاح السياسي، وليس الثورة الدموية، أداة دُعاةِ العمل السياسي. بلا تنسيق بينهم. بلا لقاء، فالهدف الأساسي واحد: التنمية الاقتصادية. الاستثمار في الإنسان العربي. تحسين مستواه المعيشي، بتوفير الخدمات الرئيسية، من صحة. تعليم. عمل. هذا هو السبيل عندهم لإنضاج الوعي السياسي بالواقع المتخلف، أو لمقاومة الواقع الاحتلالي.

المرجعية السياسية للإصلاح تقوم على بديهيات أساسية: الفصل بين السلطات، لا سيما ضمان استقلال القضاء. ثم إرساء دولة القانون والشفافية والنزاهة. على أن تبقى هذه المرجعية في منأى عن آيديولوجيا تحتكر العمل السياسي. أعتقد هنا أن الفصل الحقيقي الأكثر أهمية هو الفصل يبن النظام السياسي والدولة. ابتلاع النظام للدولة أصابه بالترهل. فلم يعد قادرا على ممارسة رياضة تداول السلطة، بين الفرقاء المتنافسين سلما بالسياسة.

النقد الآخر الذي أستطيع أن أوجهه إلى حركات العمل السياسي، يستند إلى العجز المبكر عن رسم منهج عربي مشترك للإصلاح أو التغيير. والكف عن اعتماد الأشخاص كرموز لهما، بدلا من المؤسسات. ولعل تناول تجربة كل من فياض والبرادعي والقذافي الابن، بشيء من التفصيل، يبيِّن أوجه النجاح والقصور.

مرجعية سلام فياض تواجه امتحانا أصعب مما يواجه البرادعي وسيف القذافي. سلام يكلف نفسه وسلطته الرهان السلمي لتصفية أَعْتَى أنواع الاستعمار. الاستعمار الاستيطاني الذي احتاجت الجزائر البطلة إلى نضال دموي مسلح استغرق 130 سنة لإحباطه. وأسقطه نلسون مانديلا بالمقاومة السلمية في جنوب أفريقيا، استغرقت أكثر من ثلاثين سنة.

نجح فياض في فرض واقع سياسي: التشبث السلمي بالأرض. الصمود في الخط الأمامي للمواجهة، لمنع المستوطنين من سرقة الأرض. فَرَضَ مقاطعة سلع المستوطنات (تؤمن 200 مليون دولار للمستوطنين سنويا) يخطط لسحب 30 ألف عامل فلسطيني في المستوطنات. تأمين عمل بديل لهم، بتشجيع المشروع الاقتصادي، متعاونا مع حلفائه في الرأسمالية الوطنية الفلسطينية، وبتمويل من الدول الخليجية.

لتحقيق التنمية الاقتصادية، فرض سلام وعباس الأمن في الضفة. مع الأمن، تم تنفيذ مشاريع البنى الأساسية: طرق. مَشَافٍ. مدارس. تقويض شبكة حماس لجمع التبرعات لتمويل ثقافة العنف وممارسته بالصواريخ عديمة الجدوى. كان الرد الإسرائيلي بقضم أجود أراضي الضفة. ورفع الجدار الفاصل بين الفلاحين الفلسطينيين وأراضيهم الزراعية.

سلام يراهن على النضال السلمي، والتأييد العربي، والتعاطف الأوروبي، والصحوة الأميركية ضد حكومة نيتنياهو المتطرفة. ثم انتزاع قرار من الأمم المتحدة بإقامة الدولة الفلسطينية، إذا لم يتم الاتفاق مع إسرائيل على سحب الاحتلال. لكن شعبية فياض ما زالت دون شعبية حماس وفتح. حماس تهاجم فياض. لكنها تقلده في تسيير التظاهرات السلمية الاحتجاجية أمام معابر الحصار الإسرائيلي لغزة. مع ذلك، الرأي العام الفلسطيني الأكثر ميلا للمقاومة المسلحة يشكك في قدرة النضال السياسي وحده على بناء الدولة. أما البرادعي فقد ألقى، فعلا، حجرا في الغدير المصري. لكن هذا الشيخ الجليل (67 سنة) القادم إلى السياسة من دهاليز الديبلوماسية يصر على أن يكون مجرد ظاهرة مؤقتة وعابرة، في طموحه الشخصي لترشيح نفسه للرئاسة، متجاهلا قصر المسافة الزمنية اللازمة لإعداده وتأهيله للمنصب، ومعتمدا بطانة صغيرة من المثقفين، بصرف النظر عن كونهم إصلاحيين حقيقيين أو مشاكسين انتهازيين.

سبق أن اقترحت على البرادعي، في «الشرق الأوسط» أن يؤسس حزبا يشق «الطريق الثالث» بين رأسمالية النظام الوطنية، والرأسمالية الإخوانية. التقطت الاقتراح أقوى صحيفة مصرية معارضة. دعاه رئيس تحريرها إلى تشكيل حزب يجسد «الطريق الثالث» بين النظام والإخوان. يبدو البرادعي مترددا. وربما حائرا.

أضيف اليوم أن البرادعي بحاجة إلى إعلان منهجه المتكامل للعمل السياسي. يحدد فيه رؤيته للإصلاح والتغيير. يعيِّن موقعه على الخريطة السياسية، رأسماليا. أو ليبراليا. أو اشتراكيا. بعد ذلك كله، يأتي العمل الحزبي المنظم، وليس الشخصي، لتعديل الدستور، وتوسيع رقعة المنافسة على الرئاسة، بدلا من هذه الهرولة التلفزيونية العشوائية للدخول في مواجهة استفزازية مع نظام لم يستفزه. ولمهاجمة أنظمة عربية لم تهاجمه، ولمغازلة أحزاب سياسية ودينية، تؤيده علنا. تركب موجته. تحاربه خفية.

سيف الإسلام القذافي نجح في إقناع الغرب بأن والده راغب حقا في الاستغناء عن مشروع أسلحته النووية وغازاته الكيماوية. لكن هذا الشاب لم ينجح، بعد، في تقديم نفسه رمزا وقاطرة للعمل السياسي السلمي داخل ليبيا، لإصلاح الإدارة أو تحقيق الانفتاح السياسي والاقتصادي.

يرفع هذا الشاب المثقف (37 سنة) دارس الاقتصاد في أرقى جامعات لندن (هو أيضا كفياض والبرادعي) شعار التنمية الاقتصادية. مطالبا بانفتاح سياسي متحرر من آيديولوجيا أبيه، بل مطالبا بعدم احتكار النظام للسلطة، إنما تداولها من خلال انتخاب حر. لكن الطبقة البيروقراطية التي راكمت المكاسب، من خلال عصر الفوضى، تسد عليه الطريق. نجح القذافي الابن في استعادة ثقة الغرب. بقي عليه أن يستعيد ثقة الشعب. مهمة طويلة وشاقة تبدو فوق طاقة احتمال شاب طموح، لكن قصير النفس.