عودة باراك أوباما!

TT

لا أذكر أيا من الكاتبين الأميركيين توماس بين أو مارك توين هو الذي قال: إن الأخبار حول موتي مبالغ فيها!!؛ وسواء كان هذا الكاتب أو ذاك هو الذي قالها، فإن القول يصدق أكثر ما يصدق على باراك أوباما رئيس الولايات المتحدة الذي كادت التقديرات السياسية تشطبه من قائمة النجاح للرؤساء الأميركيين. ولم يكن ذلك رأي المحللين وأصحاب الرأي فقط، بل كان الرأي العام وراءهم يظهر في الاستطلاعات الدورية للرأي العام أن أول رئيس أميركي من أصول أفريقية في التاريخ قد فشل في مهمته التاريخية ليس فقط بإنقاذ أميركا وإخراجها من أزمتها، وإنما أيضا قيادتها إلى مستقبل يضمن لها المكانة والمنعة.

والمفارقة هنا أن ما جرى من انهيار في التقدير للرئيس الأميركي كان راجعا بالأساس له هو شخصيا، فلم يكن أحد يقلل من حجم التحديات التي كان عليه مواجهتها، حيث وصل إلى البيت الأبيض بعد أسابيع من إعلان وقوع الأزمة العالمية في منتصف سبتمبر (أيلول) 2008؛ وعندما دخل إلى البيت الأبيض في 20 يناير (كانون الثاني) 2009 كانت كل توقعات الأزمة قد وصلت إلى أقصى درجاتها سوداوية حتى بات الانكماش الجاري في الاقتصاد الأميركي والدولي يقارن بذلك الذي جرى مع الكساد الكبير الذي بدأ عام 1929 ولكنه استمر طوال عقد الثلاثينات من القرن الماضي. ولم تكن الأزمة وحدها التي حلت بالرئيس الجديد، وإنما ما بدا أن العلاج الذي حاوله سلفه بوش (الابن) لم يؤد إلى نتيجة في نفس الوقت الذي كانت فيه الأنباء تشير إلى أن الأحوال الأميركية في العراق وأفغانستان، وبقية العالم، ليست على ما يرام، وفي الحقيقة سيئة للغاية.

وبالنسبة لرئيس آخر غير باراك أوباما فربما التمس له الجميع العذر لأنه جاء إلى أوضاع سيئة تحتاج إلى آماد طويلة للمعالجة؛ ولمن في حالة أوباما فقد كان الرجل يوحي برئيس مختلف تماما. وذات مرة قلت، وكتبت أيضا، إن السيرة الذاتية لحياة الرئيس الأميركي إذا ما عرضت على خبير في علم النفس لاستنتج أن هذه الحياة إما أن تنتج سفاحا معقدا؛ أو تنتج نبيا مصلحا بحكم ما تعرض له من علم وخبرة تكفي لكي تعطيه حكمة الحكماء. وما حدث فعلا كان أن أوباما أصبح رئيسا للولايات المتحدة، ولكنه عرف طرق الإيحاء الكارزمية ووصل إلى قلوب الناس وعقولهم باعتباره «المخلص» و«المنقذ» الذي سيحل الأزمات، ويقود العالم إلى مرافئ آمنة في الاقتصاد والسياسة والاستراتيجية.

والحقيقة فإن أوباما لم يكن «أعجوبة» لأنه أول رئيس أميركي من أصول أفريقية فقط، وإنما لأنه بدا وكأنه يشكل مفارقة في التفكير الأميركي حول الذات الأميركية، وحول العالم على تعدد ثقافاته، واختلاف موازين القوة فيه. وربما كان خطاب القاهرة في الرابع من يونيو (حزيران) الماضي يمثل الذروة في وصف أوباما باعتباره لحظة تاريخية يولد فيها عالم قائم على التعاون وحوار الحضارات والسعي إلى حل المشكلات المزمنة وفي مقدمتها أزمة الشرق الأوسط التي استعصت على كل رؤساء أميركا في كل العصور، بل إن أميركا بدت تحصل على نتائج سلبية سواء تدخلت في الصراع سعيا لحله، أو لم تتدخل وابتعدت عن مجرياته المتشعبة. هنا فإن موقف أوباما لم يكن مجرد زيارة أخرى لصراع مزمن، وإنما اعتقاد جازم أن هذا الصراع لا يمثل سلبا للمصالح الأميركية، بل إن له نتائج كونية عظمى في العلاقات بين العالم الإسلامي على اتساعه وبقية العالم. وكان الإدراك هنا أن أميركا تكتوي بهذا الصراع سواء اقتربت منه أو ابتعدت عنه.

كان أوباما هو الذي رفع التوقعات حتى قاربت عنان السماء، ومن بعدها فإن العالم الحقيقي ظهر أنه لا يعطي بسهولة لأصحاب الأحلام الكبيرة. أو أن أصحاب الأحلام الكبيرة لن يعرفوا كيف يتعاملون مع العالم الحقيقي. ومن بعد خطاب القاهرة بدأ نجم الرجل في الأفول حتى بدا منطقيا أن كل مشاريعه العالمية والمحلية قد دخلت في مرحلة سبات عميق، أو أنها ببساطة أصبحت منذرة بانفجارات كبرى خاصة في العراق وأفغانستان. ومع تركيز أوباما على مشروع الرعاية الصحية وموافقة الكونغرس عليه فإن كل المبادرات الأخرى في الشرق الأوسط وغيرها راحت في سبات عميق. ومع مضي الوقت خلال النصف الثاني للعام الأول لولايته أخذت شعبية أوباما في التراجع، وكان الأمر في البداية نوعا من خيبة الأمل، ولكن المسألة انتهت بأن الرجل لم يكن يصلح من الأصل رئيسا للجمهورية لدولة عظمى تحتاج رئيسا من مقاس خاص. أصبح أوباما ومواهبه موضوعا للتساؤل، بل إن هذه المواهب نفسها أصبحت هي العقبة أمام العمل السياسي، فلا يمكن لحالم له مكانه بين قاعات الطلبة أو ساحات المبشرين، أما لعبة السلطة فهي أمر آخر. أو هكذا قيل اتهاما في قناة صاحبنا. وحتى خطاب الاتحاد في شهر يناير الماضي لم يكن واضحا عما إذا كان أوباما سوف يصلح لفترة رئاسة ثانية أم لا؟

يا إلهي تغيرت الدنيا كلها خلال شهور قليلة، وما بدا وكأنه التسليم بفشل أوباما وعجزه، فقد بدا الأمر وكأنه من الحماقة استبعاد الرجل تماما من التاريخ الأميركي، وهو الرجل الذي أثبت قدرة فائقة على التعامل مع مواقف صعبة سواء قبل أو بعد الانتخابات الرئاسية. والحقيقة أنه كانت هناك أمور مثل الشرق الأوسط لا يمكن تجازوها بجرة قلم ولكنها كلها تقريبا تحتاج إلى الزمن الذي ينضجها ويسوي مشكلاتها وأزماتها. والأهم من ذلك أن التركيز على مشروع الرعاية الصحية كان له ما يبرره من حيث كونه واحدا من المشاريع الجوهرية التي خلبت لب رؤساء أميركيين سابقين، ولكنهم فشلوا تماما في إنجاز قانونها. وعلى أي الأحوال فإن التركيز أفاد حيث نجح أوباما في النهاية في الحصول على موافقة مجلسي النواب والشيوخ وخرج مظفرا في قضية الرعاية الصحية.

قانون الرعاية الصحية كان بالتأكيد نقطة تحول في حظوظ أوباما، ويبدو أن الحظوظ لا تأتي إلا في حزمة واحدة حيث حدثت مجموعة من التطورات الإيجابية التي كان أولها أن النبض عاد مرة أخرى إلى الاقتصاد الأميركي، وأصبح ممكنا فعلا الحديث على أن الولايات المتحدة قد تركت وراءها أسوأ أوقات الأزمة أو قاعها؛ كما حدث تحسن في معدلات البطالة وبدأت المؤشرات الاقتصادية تترك الحالة السيئة التي كانت فيها وتتحول من اللون الأحمر إلى اللون الأخضر. وفى نفس الوقت جرى الاختراق في المفاوضات الأميركية الروسية وتوقيع اتفاقية «ستارت 2» أي معاهدة خفض الأسلحة الاستراتيجية لكي تخلف اتفاقية «ستارت 1» التي وقعها الرئيس الأميركي رونالد ريغان مع الرئيس «السوفياتي» في ذلك الوقت خلال الثمانينات من القرن الماضي. هذه الاتفاقية تستأنف عملية خفض الأسلحة النووية وهو ما يعطي مصداقية لأقوال أوباما حول عالم خال من الأسلحة النووية؛ ولكنها من ناحية أخرى تفتح الباب على تحسين العلاقات الروسية - الأميركية وهي العلاقات التي يمكنها أن تشكل أكبر تجمع للقوى الاستراتيجية في عالمنا خاصة بعد أن يتم التنسيق فيها مع الصين والهند. مثل ذلك يعطي أوباما منظومة دولية تضم هذه الدول الثلاث مع أوروبا والولايات المتحدة لحل مشكلات دولية معقدة لم يعد ممكنا حلها دون تعاون بين هذه القوة أو قدرة على فرض هذه الحلول. والعجيب أن معظم هذه المشكلات تقع في منطقتنا سواء كانت المعضلة الإيرانية وتوابعها، أو الأفغانية وتداعياتها، أو أزمة الشرق الأوسط المزمنة وإسقاطاتها على منطقة بالغة التعقيد، وعالم بالغ التركيب.

وهكذا عاد أوباما مرة أخرى، وربما كانت العودة هذه المرة أكثر واقعية، وبعد عام من رئاسته ربما كان الرئيس الأميركي أكثر نضجا بحيث يعرف الفارق بين الفكر والواقع؛ وربما أيضا كان العالم أكثر حكمة بحيث يعرف الفارق ما بين الممكن والمستحيل. وسبحان مغير الأحوال!.