القاضي غرزون يثير زوبعة جديدة

TT

تمثل إعجاز تجربة الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية في إسبانيا في اتفاق جميع الأطراف على طي صفحة الماضي والتوجه كلية إلى المستقبل. وكان ذلك المستقبل الذي تطلعوا إليه هو ما نراه اليوم من وضع سياسي سليم، وتقدم اقتصادي واجتماعي واضح. أي إسبانيا أخرى تختلف جذريا عن إسبانيا الماضي التي تأخرت عن الركب الأوروبي بسبب الحروب والمواجهات العنيفة التي سادتها طيلة قرنين ونيف واستمرت إلى منتصف السبعينات حينما قرر المعتدلون من المعسكرين المتواجهين أنه لا يمكن لأحدهما أن يقضي على الآخر كلية من أجل أن يضمن لنفسه البقاء. وكان الإنجاز الأعظم هو إقرار دولة قانون بمؤسسات ناجعة. وقد وصفنا في مناسبة سابقة كيف نجح الإسبان في اجتياز مراحل صعبة من تطورهم، بل أصبحوا يُضربون المثل في القدرة على تعايش دولة القانون مع مآزقها.

وقد أطل شبح الماضي البئيس من جديد بمناسبة نبش ملفات جرائم عهد فرانكو، ووصل الأمر إلى فتح القبور، وليس هناك مجاز في هذا التعبير. وبدأ ذلك بالمصادقة في 31 ديسمبر (كانون الأول) 2007 على قانون الذاكرة التاريخية الذي ينطوي على الاعتراف بالأضرار التي مني بها ضحايا الحرب الأهلية والقمع الذي تلاها، ويأمر المصالح الإدارية في مجموع التراب الوطني، بأن تسهل على أقارب أولئك الضحايا التعرف على مصير المختفين وقبورهم. وقدر عدد المختفين في بداية الأمر بنحو عشرين ألف شخص مجهول مصيرهم، يضاف إليهم أولئك الذين مثلوا أمام المحاكم العسكرية، وهؤلاء معروفة على الأقل أسماؤهم المثبتة في السجلات.

وكان ذلك القانون ينص على أن ذلك الاعتراف لا يعني الحق في أي تعويض اقتصادي، ولا في إلغاء الأحكام الصادرة في حق المعنيين. وقدمت آلاف الطلبات بفتح القبور للتثبت من هوية المدفونين فيها. وأشهر العمليات التي تمت في هذا الصدد هي حفر قبر أشهر شاعر إسباني في القرن العشرين وهو الغرناطي فيديريكو غرثية لوركا، وذلك بعد تردد طويل من لدن عائلته. وحينما تم في ديسمبر الماضي تمشيط ما لا يقل عن ألف متر مربع في ضاحية الفخار بعاصمة بني نصر، لم يتم العثور على بقايا الشاعر ورفاق له، كانت الرواية الشفوية قد تداولت طيلة ما يزيد على سبعين سنة معطيات عن مكان دفنهم أي حيث تم تنفيذ حكم الإعدام رميا بالرصاص. ولتلافي خيبات مماثلة امتنعت عدة حكومات إقليمية عن الترخيص بفتح القبور.

وكان رئيس الحكومة الاشتراكي ثاباطيرو قد التزم موقفا معتدلا أثناء مناقشة قانون الذاكرة التاريخية. وصرح بأن «كل ما من شأنه أن يجعل الذاكرة مطوية في ثنايا النسيان سيكون مطلوبا». وتكريما لأبناء وأحفاد المضطهدين قررت الحكومة منح الجنسية الإسبانية لنحو نصف مليون من أبناء المنفيين الذين غادروا البلاد نجاة بأنفسهم من قمع فرانكو. وحدث أثناء طرح قانون الذاكرة التاريخية أمام البرلمان أن تشكيلات يسارية صغيرة حاولت جر النقاش إلى بعض المزايدات.

ولكن إسبانيا الجديدة تكاد تكون قد نسيت الماضي. وحدث فعلا أن ذكرى وفاة الجنرال فرانكو لم يعد يحتفل بها. وفي السنة الماضية لم يزد على السبعين عدد الأشخاص الذين زاروا قبر الدكتاتور بمناسبة ذكرى وفاته. واختفت شيئا فشيئا تماثيل الجنرال من الساحات العمومية، وكذلك اختفى اسمه من الشوارع والساحات والمنشآت، باستثناء مدينة مليلية المغربية التي تحتلها إسبانيا في الساحل المتوسطي. وفي العام الماضي تقرر إلغاء الاحتفال بذكرى وفاة فرانكو.

وفي سنة 2002 كان البرلمان الإسباني قد صادق في يوم ذكرى وفاة الديكتاتور على قرار يتضمن إدانة عهد فرانكو برمته. وكانت للحزب الشعبي اليميني إذ ذاك أغلبية مطلقة. وكان التصويت بشأن القرار المشار إليه قد تم بالإجماع. واختيرت كشعار لتلك الخطوة قولة لرئيس جمهورية سابق هو أثانيا، الذي طالما عبر أثنار عن تعلقه به وهو شعار مؤلف من ثلاث كلمات: السلم والشفقة والغفران. واعتبر ذلك القرار بمثابة الإطاحة الثانية بنظام فرانكو، بعد نجاح الانتقال الديمقراطي وتصفية الفرانكوية من الأساس. ذلك أن دستور 1978 قد زود إسبانيا بأدوات دولة قانون عصرية لا تختلف في شيء عن أعرق الأنظمة الديمقراطية.

وحينما تفاوض متزعمو الانتقال الديمقراطي على ذلك الدستور، كان مضمرا أن التصالح يعني عدم فتح متابعات من أي نوع للمسؤولين عن كل من المعسكرين، عملا بالعفو العام. ولم يقترن الانتقال الديمقراطي بإحداث قطيعة قانونية. ومن ذلك أن الأحكام الصادرة عن المحاكم العسكرية اعتبرت جارية المفعول بحكم صدورها في ظل شرعية قائمة.

وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2008 حاول القاضي غرزون فتح ملفات المختفين في عهد فرانكو، وتردد حينئذ أن الأمر يتعلق بما لا يقل عن 114.266 شخص، تنطبق عليهم مواصفات «جرائم ضد الإنسانية». وفي ذلك الوقت امتنعت النيابة العامة وهي تابعة للسلطة التنفيذية، عن مسايرته، تلافيا لجر البلاد إلى الغرق من جديد في الماضي. وأثير نقاش واسع عن ملاءمة الخطوة التي قام بها القاضي المغرم باحتلال عناوين الصفحات الأولى.

وتجدد الآن الجدل بشأن الماضي في شكل شكوى ترمي إلى تنحية القاضي الجسور من سجل القضاء لمدة 20 عاما بدعوى أنه خرق قاعدة العفو العام الذي تقوم عليه التجربة القائمة منذ 1978. وإذا قرر المجلس الأعلى للقضاء يوم 22 من الشهر الجاري متابعة القاضي غرزون تبعا للشكوى المقدمة ضده، فإنه سيتقرر في نفس الوقت أنه لم يكن من حقه فتح تحقيقات بشأن المسؤولين المحتملين عن الجرائم ضد الإنسانية في عهد فرانكو.

وقد أثارت متابعة القاضي غرزون ضجة كبيرة في إسبانيا والعالم. وتكفي الإشارة إلى ما نشرته «نيويورك تايمز» من أن «الجنحة الحقيقية هي الاختفاءات التي حدثت وليست التحقيقات التي يقوم بها القاضي غرزون». وعلاوة على التجمعات الحاشدة التي تتهيأ في إسبانيا بمبادرة من نقابات وجامعات، فإنه من المنتظر أن يعلن يوم الأربعاء 14 أبريل (نيسان) في بوينوس آيريس عن تقديم شكوى بشأن المختفين في عهد فرانكو بإسبانيا «وذلك لوقف الإفلات من العقاب في إسبانيا» وترمي الشكوى إلى متابعة المسؤولين الذين ما زالوا أحياء من حزب الفلانخي، والحرس المدني، والجيش، ووزراء فرانكو.

ومن السهل أن نتصور الاستقطاب الذي يحدث بسبب نازلة من هذا القبيل. فمن جهة، هناك استياء في الأوساط اليسارية لمتابعة قاض طالما احتل شاشة الإعلام، لدى مطاردة الجنرال ينوشي. وهذا ما سارعت إليه أمنيستي أنترناشيونال، والفيدرالية الأوروبية للقضاة من أجل الديمقراطية والحريات. وجاء في بيان لهذه الهيئة تحذير من «انبعاث قيم الفاشية». وهذا ما يتوقع في حالة ما إذا تم إسكات القاضي غرزون.

ومرة أخرى يظهر أن المؤسسات والقواعد التي يكلف إقامتها جهدا شاقا بين الفاعلين السياسيين تتعرض للاهتزاز بسرعة على يد شبكة تواصلية قادرة على تحريك مبادرات تحتل حيزا في اهتمام الرأي العام. وفي هذا السياق تظل القنوات المتعارف عليها لتصريف العلاقات الرسمية فيما بين الدول معرضة للاختراق، دون أن تتمكن الحكومات من إيقاف الغليان الذي يغمر الخواطر، بل إن القنوات الرسمية تبقى مكتوفة الأيدي بحكم قاعدة استقلال السلطات، والحال أن المسألة تجتاز مسالك القضاء.