الأردن يقرع أجراس الخطر قبل تأبين العملية السلمية

TT

ذهب العاهل الأردني عبد الله الثاني بن الحسين هذه المرة إلى الولايات المتحدة في زيارته، التي بدأت يوم السبت الماضي وتضمنت لقاء مع الرئيس الأميركي باراك أوباما وُصف بأنه على جانب كبير من الأهمية، بموقف غلب عليه التشاؤم بالنسبة إلى عملية السلام المتردية والتي أوصلها تطرف بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية إلى جدار مسدود وأصم فأصبح البديل هو انتعاش الإرهاب في هذه المنطقة أكثر مما هو منتعش وهو احتمال انفجار حرب إقليمية جديدة من غير المستبعد أن تُستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل وربما الصواريخ المزودة برؤوس نووية تكتيكية.

حمل الملك عبد الله الثاني معه في هذه الزيارة إلى واشنطن وجهة نظر العرب الذين شاركوا في قمة سرْت الأخيرة، القائلة إن إسرائيل لا تريد السلام أصلا وإن كل رؤساء حكوماتها باستثناء إسحاق رابين قد التزموا السياسة التي رسمها إسحاق شامير عشية انعقاد مؤتمر مدريد الشهير في عام 1992 والداعية إلى التفاوض مع الفلسطينيين على طريقة القفز في الهواء في المكان ذاته ودون التقدم إلى الأمام ولو خطوة واحدة.

في كل المرات السابقة التي التقى فيها العاهل الأردني الرئيس أوباما، كان لديه أمل بأن تفعل هذه الإدارة الأميركية ما كانت فعلته إدارة بيل كلينتون السابقة عام 1999 التي واجهت عبث بنيامين نتنياهو وتطرفه وإصراره على تدمير عملية السلام بالعمل من خلال الجبهة الداخلية الإسرائيلية وإقامة تحالف تمكن من إسقاط رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي الذي كان رئيسا للوزراء في ذلك الحين وإجراء انتخابات مبكرة فاز فيها حزب العمل بقيادة إيهود باراك الذي يحتل الآن موقع وزير الدفاع في حكومة التحالف اليميني الحالية.

كان الملك عبد الله الثاني قد توصل إلى قناعة أن إسرائيل، بعد هيمنة اليمين المتطرف على الحياة السياسية فيها لا تريد السلام إطلاقا في عهد هذه المجموعة المتطرفة التي دأبت على التناوب على القيادة الإسرائيلية منذ منتصف تسعينات القرن الماضي ولهذا فإنه امتنع عن زيارتها منذ أن تسلم سلطاته الدستورية في فبراير (شباط) عام 1999 فبقيت علاقات الأردن بهذه الدولة وعلى كل المستويات، الرسمية والشعبية، فاترة وتقتصر على مجرد ما يخدم الوضع الفلسطيني إن في غزة وإن في الضفة الغربية.

لكن رغم هذه القناعة فقد بقي العاهل الأردني يراهن أولا على إمكانية أن تتغير إسرائيل من الداخل وأن يدرك الإسرائيليون أن هذا اليمين المتطرف ذاهب بهم في نهاية الأمر إلى كارثة محققة فيستبدلونه من خلال صناديق الاقتراع بقيادة واقعية ومعتدلة لها مواصفات إسحاق رابين وثانيا على إمكانية أن يدرك الرأي العام الأميركي وبالتالي الإدارة الأميركية أن الولايات المتحدة بعد احتلال العراق واحتلال أفغانستان وبعد كل هذا الوجود العسكري المكثف في هذه المنطقة غدت دولة شرق أوسطية وغدت حفاظا على مصالحها الحيوية والاستراتيجية في هذا الشرق الأوسط الممتد إلى بحر قزوين وإلى حدود الصين ملزمة بكبح جماح الحكومات الإسرائيلية اليمينية المتلاحقة.

لقد كانت هذه هي تقديرات العاهل الأردني المبنية على إمكانية أن يتحرك الأميركيون، حتى في عهد إدارة بوش (الابن) السابقة، بسرعة لإنقاذ عملية السلام الآخذة في الغرق شيئا فشيئا للحفاظ على مصالح الولايات المتحدة الحيوية والاستراتيجية في هذه المنطقة الحساسة لكنه ذهب هذه المرة للقاء باراك أوباما في محاولة أخيرة لقرع أجراس الخطر ودق جدران الخزان الأميركي بقوة قبل تأبين عملية السلام بصورة نهائية وقبل أن يُضطرّ العرب إلى إنزال مبادرتهم السلمية من فوق الطاولة ما دامت مرفوضة من قبل هذه الحكومة الإسرائيلية والحكومة التي قبلها والتي قبل التي قبلها.

إنها المحاولة الأخيرة، ولعل ما كان على باراك أوباما وإدارته فهمه والتصرف على أساسه هو أن ما قاله الملك عبد الله الثاني لرؤساء تحرير الصحف الأردنية اليومية، «الرأي» و«الدستور» و«العرب اليوم» و«الغد» و«الجوردن تايمز»، في الرابع والعشرين من مارس (آذار) الماضي وكرره في حديث لاحق لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية هو جرس إنذار وهو تحذير يقتضي أن تتحرك إدارة الرئيس باراك أوباما بسرعة لوقف تلاعب هذه الحكومة الإسرائيلية ووضع حد لعبثها بأوضاع الشرق الأوسط المتفجرة أصلا وبالتالي لمنعها من الاستمرار في تعريض مصالح الولايات المتحدة الحيوية في هذه المنطقة الحساسة للخطر واستدراج حرب إقليمية جديدة ستكون مدمرة وكارثية في كل الأحوال وستؤدي في النتيجة إلى واقع جديد عنوانه أن استشراء الإرهاب سيمتد حتما إلى سنوات طويلة.

في حديثه لصحيفة «وول ستريت جورنال» أشار العاهل الأردني إلى أن صدقية عملية السلام برمتها قد وصلت إلى أدنى مستوياتها وحذّر من أنه لا يمكن استمرار الوضع الراهن «لأن ذلك سيؤدي إلى تفجر الأوضاع في حرب جديدة ستزيد من معاناة جميع شعوب المنطقة. إننا قلقون جدا من إضاعة الوقت... وإن الإجراءات الإسرائيلية الأحادية التي تستهدف تغيير معالم القدس وتهدد الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية تجعل من هذه المسألة قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة». وكان في حديثه إلى الصحف الأردنية اليومية قد قال: «لقد حذّرْت في كل الاجتماعات التي تمت مع مسؤولين إسرائيليين وأميركيين ومسؤولين دوليين من أن الاستمرار في الاعتداء على القدس وعلى مقدساتها سيشعل المنطقة برمتها، فللقدس خصوصية عند الفلسطينيين والأردنيين وعند كل العرب والمسلمين، وكما قلت في مقابلة مع صحيفة إسرائيلية منذ أشهر فإن الممارسات الإسرائيلية تهدد العلاقات الأردنية - الإسرائيلية وهي علاقات باردة كما تعلمون كما أنها تهدد أيضا بإشعال الشرق الأوسط كله. إن العملية السلمية على مفترق طرق الآن، ولقد سئم الناس من عملية مفتوحة لا تؤدي إلى نتائج وأعتقد أن العالم جميعه يواجه لحظة الحقيقة: إما تقدم فعليّ وملموس وسريع للسلام، وإما دخول في دوامة جديدة من الصراع والعنف ستدفع ثمنه المنطقة وسيدفع ثمنه العالم».

لكن رغم هذا فإن الأردن لم يصل بعد إلى حد القناعة النهائية والحاسمة بإعادة النظر في جدوى بقاء اتفاقية وادي عربة التي وقعها مع إسرائيل، وكان يومها إسحاق رابين هو رئيس الوزراء في الدولة الإسرائيلية، مع أن استمرار حكومة بنيامين نتنياهو واستمرار منهجها التدميري يدفع في اتجاه تقريب هذه اللحظة والسبب هو أن القيادة الأردنية ترى أن مثل هذه الخطوة هي قرار عربي جماعي لا قرار الدولة المعنية وحدها، والسبب هو أن هناك اتفاقيات كامب ديفيد مع الشقيقة الكبرى مصر وأن هناك مبادرة السلام العربية التي لا تزال موضوعة على «الطاولة» والتي يستوجب سحبها قرارا صادرا على مستوى القمة حيث إن المعروف أن قمة بيروت عام 2002 هي التي تبنتها وأصبحت مبادرة العرب كلهم بعد أن كانت مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز عندما كان ولي عهد المملكة العربية السعودية.

ثم إن ما يجعل الأردن يفكر مليّا وبمسؤولية عالية قبل الإقدام على خطوة إعادة النظر في جدوى اتفاقية وادي عربة (1994) هو أن الواقع العربي لا يسمح بترف البحث عن بديل لخيار السلام رغم تردي هذا الخيار واقترابه من الانهيار نهائيا في ضوء كل هذه التصرفات الإسرائيلية العبثية والتدميرية، وهو أيضا أن الذي سيدفع الثمن الغالي هو الشعب الفلسطيني المحاصر والذي إن أُغلق منفذه الأردني وهو المنفذ الوحيد بالنسبة إلى الضفة الغربية فإنه سيضطر حتما إلى تقديم تنازلات جسيمة ورئيسية للإسرائيليين تحت ضغط متطلباته الحياتية اليومية.

إن الأردن مثله مثل العرب كلهم لا يزال يراهن وإن بحدود ضيقة جدا على صحوة الجبهة الداخلية الإسرائيلية وعلى موقف أميركي جدّي استجابة لإلحاح المصالح الحيوية والاستراتيجية الأميركية، لكن المؤكد أنه إذا أخفقت وفشلت هذه المراهنات كلها فإن كل شيء جائز ولكن في الإطار العربي وبقرار على مستوى القمة العربية ولهذا فقد ذهب الملك عبد الله الثاني ليقرع أبواب إدارة أوباما قبل أن تصل الأمور إلى القرار الصعب الذي هو تأبين العملية السلمية.