استراتيجية أوباما ونجاد.. والقضاء على الآخر

TT

يبدو جليا أن الولايات المتحدة تبالغ فى تقديرها بأن العالم يقترب من بعضه إزاء فرض عقوبات دولية على إيران بهدف ثنيها عن استكمال برنامجها النووي. وواضح أيضا أن الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي، وتحديدا فرنسا وبريطانيا وألمانيا، لم يملوا بعد الحديث عن إمكانية التوصل إلى قرار أممي بفرض العقوبات وحصار إيران اقتصاديا، في وقت يزداد فيه موقف طهران تصلبا بعكس ما تشير التقارير الأميركية والغربية.

وقد نجحت إيران بفضل سياستها المتشددة حيال هذا الملف المهم للساسة الإيرانيين والقادة الدينيين «الملالي» فى حشد الداخل - بغض النظر عن المعارضة الخضراء الضعيفة - لمؤازرة السلطة الدينية والسياسية معا. فشعوب العالم الثالث تتحد فى مواجهة الأزمات التي يفرضها الخارج. وللأسف الشديد، لم يتعلم الغرب وأميركا هذا الأمر بعد، ويعتقدون أن الضغط الدولي ربما يساهم في انقسام الداخل وتشتيت مصالحه. وهو ما بدا خطأ أو خطيئة حتى الآن، فلا الحديث المتكرر عن حصار وعقوبات نجح في بث الرعب في نفوس الإيرانيين، وتوقفهم عن متابعة البرنامج النووي الذي يؤرق العالم. والعكس هو الصحيح، فالإيرانيون تعلموا درسا مهما وهو الإفراط في الإعلان بصورة شبه يومية عن تحقيق نجاح تلو النجاح نحو استكمال عملية تخصيب اليورانيوم، بما ينجم عنه في نهاية المطاف عن تصنيع القنبلة النووية.

وكل تأجيل يطرأ على أي تعهد غربي - أميركي بالنجاح في فرض عقوبات دولية ضد إيران، من شأنه زيادة ضمنية من قوة السلطة في إيران، فالمواعيد التي يعلنها الرئيس الأميركي باراك أوباما ومساعدوه تتهاوى وتنتهي إلى لا شيء. وقد لاحظ الزعماء الغربيون هذا الخطأ الأميركي في ذكر مواعيد محددة، إلى أن تعلموا الدرس. ويتجنبون الآن وضع أجندات ومواعيد سواء لفرض عقوبات أو تحديد توقيتات لتوجيه إنذارات نهائية، وهذا بهدف ألا تفقد التهديدات جدواها.

حتى استناد أميركا على بعض الإيماءات الصينية والروسية بالموافقة على فرض العقوبات المحتملة، هو أمر مشكوك فيه، فبكين على سبيل المثال، تلاعب واشنطن لمصلحتها، في الوقت الذي تدرك فيه الولايات المتحدة مدى اعتماد اقتصاد الصين الصاعد بقوة على النفط الإيراني. والحال ليس بأقل وطأة من اعتماد روسيا على الأموال الإيرانية لدعم صناعاتها العسكرية، وتحديدا الصاروخية. لدرجة أن أميركا وإسرائيل أعلنتا في وقت سابق أن روسيا تراجعت عن تسليم إيران صفقة «أنظمة الدفاع الصاروخي الروسية المتطورة - إس 300»..وهو ما نفته موسكو لاحقا، وأشارت إلى أن ثمة مسائل إجرائية تعترض عملية إتمام الصفقة العسكرية الضخمة، وليس موقفا سياسيا لموسكو بالامتناع عن تسليم الصواريخ التي أنهت إيران كافة التزاماتها المالية.

لقد رجح فاليري جاريت، كبير مستشاري أوباما، أن تتراجع طهران أمام تماسك التحالف الدولي، واتفق معه ديفيد أكسلرود أحد مستشاري البيت الأبيض، والذي زاد بأن توقع تعاونا روسيا بما يدعم فعليا عملية فرض العقوبات الدولية ضد طهران. بيد أن الواقع العملي يسير عكس توقعات جاريت وأكسلرود، حتى مع توقيع الرئيسين الأميركي أوباما والروسي ميدفيديف «معاهدة خفض الأسلحة النووية - ستارت 2». ويكفي ما ذكره فيتالي تشوركين، مندوب روسيا في الأمم المتحدة، بأن المحادثات بشأن فرض عقوبات على إيران ستكون صعبة للغاية وأن بلاده لا تريدها وترى أن الأصوب هو التوصل إلى تسوية دبلوماسية.

ومن الأخطاء التي يقع فيها الأميركيون وحلفاؤهم، التعويل على موقف موسكو بمفردها، باعتبار أن قرارا روسيا سيتبعه موقف صيني مساند له.. بمعنى أنه لو وافقت موسكو على قرار من مجلس الأمن بفرض عقوبات قد تتناول فقط البرنامج النووي الإيراني، فإن بكين ستقر هي الأخرى بهذه العقوبات ولكن بتحفظ، حتى تتجنب العزلة الدبلوماسية. وليس من الحكمة الأخذ بهذا المنطق، ونستند إلى التاريخ في هذا التحليل، فروسيا والصين دعمتا ثلاثة قرارات سابقة بفرض عقوبات محدودة جدا على إيران في أعوام 2006 و2007 و2008، تقضي بحظر السفر وتجميد الأصول واستهداف بعض المسؤولين الإيرانيين والشركات المرتبطة بالبرنامج النووي. بيد أنه للعلم فقط، فإن هذه القرارات الثلاثة تعد رمزية للغاية قياسا بما يطلبه الأميركيون في الوقت الراهن من حيث فرض عقوبات شاملة، للإضرار بالاقتصاد الإيراني كليا.

وليس الصين وروسيا هما الورقة الوحيدة لدى إيران في حربها الدبلوماسية، فثمة ورقة أخرى غاية في الأهمية وتتمثل في تهديد طهران بمنع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية من مباشرة أعمال التفتيش المبرمجة في المنشآت النووية داخل إيران في حال تعرضت لعقوبات. وتعول إيران في هذه المسألة على اضطلاع الوكالة الدولية بدور جديد لم يكن في الحسبان يتعلق بمراقبة مدى التزام موسكو وواشنطن ببنود اتفاق «ستارت 2»، لأن إيران سوف تستغل لمصلحتها أي تجاوز أميركي يعلن عنه، مع إظهار مدى تقاعس الأميركيين عن الالتزام بما تعهدوا به في معاهدات دولية.

ومن سياسة العقوبات الافتراضية إلى الواقع النووي، والذي بدا جليا بدوره في استراتيجية أوباما النووية الجديدة، والتي ساوت بين إيران وكوريا الشمالية في عدم الامتثال لنظام منع نشر الأسلحة النووية، وأن كل الخيارات مطروحة للتعامل معهما. فالاستراتيجية أقرت أن إيران وكوريا الشمالية يمثلان تهديدا نوويا للولايات المتحدة وحلفائها، لأنهما اخترقا معاهدات عدم انتشار الأسلحة النووية، وتحديا توجيهات مجلس الأمن، وسعتا لامتلاك قدرات صاروخية مع مقاومة الجهود الدولية لحل الأزمات عبر وسائل دبلوماسية. وما يهمنا في الاستراتيجية النووية الأميركية الجديدة، هو تضارب أهدافها مع مضمونها، فمن بين هذه الأهداف المعلنة بل وأهمها، هو منع انتشار الأسلحة النووية والإرهاب النووي. في حين أن الاستراتيجية لم تتحدث مطلقا عن نوايا إسرائيل النووية وتهديدها المتواصل للجيران مستفيدة بسياسة الردع النووي وما تملكه من قدرات نووية، ومستغلة أيضا دعم واشنطن لها في هذا المضمار ولسياسة الغموض النووي الذي يكتنف مشروعها العسكري.

وإذا كان الرئيس الإيراني أحمدي نجاد يتجاوز في تصريحاته وأوصافه لنظيره الأميركي والذي يعتبره شخصا هاويا في عالم السياسة، فهو استغل الإعلان عن العقيدة النووية الأميركية الجديدة، ليوجه سهاما إلى أوباما معتبرا أنه كمن وقع في مأزق ولا يعرف كيف يخرج منه سالما. وأعلن نجاد وأركان حكمه: وزيرا الخارجية منوشهر متقي والدفاع أحمد وحيدي، أنه أمام الولايات المتحدة طريقان فقط، هما «المواجهة أو التعاطي مع الطموحات الإيرانية».

والأمر اللافت، أن أوباما نفسه لم يؤكد أن تدفع العقوبات الدولية إيران إلى تغيير سلوكها وأنه ليس هناك أية ضمانات بذلك. وهنا، فإن الرئيس الأميركي وقع في حيرة أو أوقع نفسه فيها، ولم يستطع الخروج منها، وخاصة أنه أدرك بعدما عاد إلى التاريخ الذي يجيد سبر أغواره، أن ممارسة الضغوط الدولية ربما لا تؤدي إلى تحقيق أهداف الغرب، بل إن العكس هو الصحيح.

كما قد يؤخذ على أوباما أنه وراء غياب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن المشاركة في قمة الأمن النووي التي استضافتها واشنطن مؤخرا، أو على الأقل أنه الذي أوعز له بعدم الحضور وإرسال نائبه دان مريدور لرئاسة وفد إسرائيل. فواشنطن لن تعلن أنها ستقع في حرج بالغ، إذا حضر نتنياهو وتعرض لحملة عربية/إسلامية بشأن المشروع النووي الإسرائيلي الذي يعادل في خطره البرنامج النووي الإيراني. ومن السذاجة تصديق ما أعلنته تل أبيب بأن غياب نتنياهو عن قمة الأمن النووي في واشنطن يعود إلى عدم رغبته في التعرض لتوبيخ من أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون بشأن عدم رده على المطالب الأميركية المتعلقة باستئناف مفاوضات السلام مع الجانب الفلسطيني. بيد أن الهدف الرئيسي لتغييب رئيس وزراء إسرائيل هو تجنيب واشنطن وتل أبيب معا الحرج من حشد المشاركين في المؤتمر لحملة قوية ضد الأسلحة النووية الإسرائيلية والمطالبة بمعاملة إسرائيل نفس معاملة إيران دوليا وعقابيا. ولذا.. ليس من الحكمة بالنسبة لأميركا أن ترى نتنياهو جالسا مع قادة العالم، بينما هي تنظم مؤتمر الأمن النووي لإظهار مخاطر المشروع النووي الإيراني وأبعاده السلبية على أمن المنطقة والعالم. ولهذا، فإن أميركا قد أسدت صنيعا لإسرائيل عندما تعمدت تغييب رئيس الوزراء الإسرائيلي عن فعاليات المؤتمر.

لا يزال الأميركيون يعولون على أن إيران دخلت مرحلة الانقسام بسبب الثورة الخضراء على ما يعتقدون، وهذا بعكس بداية عهد أوباما الذي استهل إدارته بينما كان العالم منقسما وإيران موحدة. وهذا يعني للأميركيين أن الوقت يعمل لمصلحتهم، ولكن الخوف أن تحتوي إيران هذه الثورة الخضراء ويضيع أمل قادة واشنطن في الوقت، الذي استغل فيه الإيرانيون إعلان استراتيجية أوباما النووية ليطالبوا واشنطن بتحديد تاريخ لتدمير أكثر من 2500 رأس نووي هي عهدة أميركا من الأسلحة النووية.

لقد أصبح العالم فجأة بين استراتيجيتين، الأولى نووية أعلنها أوباما للقضاء على الإرهاب النووي الإيراني والكوري الشمالي، والثانية، تبناها نجاد ليهدد المصالح الأميركية في العالم عبر جميع أصدقاء «الثورة الإسلامية».

* كاتب ومحلل

سياسي بحريني