تجربة في «الديمقراطية المركزية»

TT

من المبكر جدا الحكم على مستقبل التجربة الانتخابية - ولا نقول الديمقراطية - في السودان.

ولكن مجرد عودة السودان إلى صيغة الاقتراع الشعبي المباشر بعد ربع قرن من المقاطعة المطلقة لأي شكل من أشكال المساهمة الشعبية في القرار السياسي لنظام الحكم.. مؤشر واعد عن تطلع المشير عمر حسن أحمد البشير إلى إضفاء شرعية ديمقراطية على هذا النظام. وإن جاز الاستطراد في هذا التفاؤل لصح اعتبار العملية الانتخابية في السودان دليلا على استعداد نظام البشير لحلحلة قبضة الدولة الحديدية على كل أوجه الحياة السياسية في السودان.. وإن بقدر محدود على الأقل.

مع ذلك، حبذا لو كان جل ما شاب انتخابات السودان من إشكالات يعود إلى ما وصفته وكالات الأنباء والصحف بـ«الارتباك والأخطاء» التي طغت على اليوم الأول من عمليات الاقتراع. عندئذ لكان صح ردها إلى «التثقيف الجماهيري والترتيبات الإدارية» التي لم تكن كافية، كما ذكرت التقارير الصحافية.

ولكن، وعلى قاعدة «إنما الأعمال بالنيات»، لا يبدو الانفتاح المستجد لنظام البشير على الآلية الانتخابية حصيلة تحول داخلي في ذهنية الحكم أو رغبة عارمة في إشراك القاعدة الشعبية في القرار السياسي، بقدر ما هو تجربة في «العلاقات العامة».. مع الغرب تحديدا.

لو كان إشراك القاعدة الشعبية في الحياة السياسية قرارا جديا لكان انطلق من اعتماد قانون انتخابي مبسط يسهل عملية الاقتراع للناخب السوداني الذي افتقد «التقليد الانتخابي» على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية وكاد أن ينساه، ولكان فُصّل هذا القانون على مقاس شعب لا تزال نسبة الأمية بين أبنائه المتعددي الإثنيات والمعتقدات في حدود الأربعين في المائة.

ولكن إخضاع السودانيين لقانون انتخاب وصفته بعض الوكالات الصحافية بأنه «الأكثر تعقيدا في العالم» يثير تساؤلات مبررة عما إذا كان «تعقيده» - إلى حد تضليل رئيس حكومة الجنوب نفسه في عملية اقتراعه في جوبا - اقتضته معطيات تشريعية أم متطلبات سياسية، خصوصا أن ظاهرة «التعقيد» قرنها نظام البشير بقرار آخر زادها تعقيدا هو إجراء ثلاثة انتخابات مختلفة (الرئاسية والتشريعية والمحلية) في عملية واحدة.

السؤال الذي يطرح نفسه على هذه الخلفية هو: هل كان الهدف السياسي من قرار جمع كل الانتخابات السودانية في سلة واحدة وإجرائها بـ«الجملة»، دفعة واحدة، هو إتاحة أوسع فرصة ممكنة للناخب السوداني للمشاركة في القرار السياسي على كل مستويات السلطة، أم الالتفاف على هذه الاستحقاقات الانتخابية بحيث تقتصر على «شرعنة» النظام عبر عملية تجميل «كوزميتيكية» تطال شكله ولا تمس مضمونه؟

انتخابات السودان، في أحسن الحالات، محاولة لتحسين صورة نظام البشير في الغرب بعد أن تدهورت بشكل مريع في أعقاب أحداث دارفور الدامية. وفي أسوئها محاولة لكسر حدة عزلته الدولية.

في كلتا الحالتين يبدو أن الصورة الديمقراطية للحكم أصبحت، في مطلع القرن الحادي والعشرين، عقدة الأنظمة الأوتوقراطية في العالم الثالث، مما يفسر إتقان الكثير من الدول المركزية في العالم الثالث «فن» شرعنة وجودها بانتخابات صورية محسومة النتائج سلفا، لا تخرج عن كونها عملية تعيين «لممثلي الشعب».. بالاقتراع المباشر.

من هذا المنظور يصعب القول بأن انتخابات البشير كانت تجربة «ديمقراطية» فاشلة.