الترجمة.. وتنوير العرب

TT

عدت للتو من حضور مؤتمر كبير ومهم عن الترجمة في القاهرة. وقد نظمه أحد مخططي الثقافة العربية في هذا العصر، الدكتور جابر عصفور رئيس المركز القومي للترجمة. إنه بمثابة طه حسين جديد. نقول ذلك على الرغم من أن التاريخ لا يكرر نفسه بشكل حرفي أبدا، ولحسن الحظ.

كلنا يعلم أن الترجمة كانت تعتبر بمثابة فعالية هامشية، بل وحتى محتقرة من قبل بعض المثقفين العرب، إن لم يكن جلهم. المترجم كان يعتبر شخصا ثانويا لا علاقة له بالإبداع، وإنما هو يكتفي فقط بالنقل الأوتوماتيكي لهذا الكتاب أو ذاك من لغة إلى أخرى. هذا، في حين أن المؤلف شخص عبقري، كل ما يكتبه هو من بنات أفكاره ولا علاقة لأحد بها. والأنكى من ذلك هو أننا كنا نعتبر الترجمة عملية سهلة يستطيع أن يقوم بها أي شخص كان، ولا تكلف شيئا يذكر. يكفي أن تعرف لغتين لكي تترجم جميع الكتب إلى العربية وأنت نائم تقريبا..

هذه الصورة الخاطئة عن الترجمة تم تبديدها في هذا المؤتمر العتيد والكبير الذي جمع على ضفاف النيل أكثر من ثمانين مترجما عربيا وأجنبيا. وعندئذ اكتشفنا أن الترجمة بالمعنى الضيق والواسع للكلمة هي فعالية شديدة الخطورة والأهمية. بل إن انطلاقة النهضة العربية المقبلة تتوقف على نجاح مشروع الترجمة، وفشلها سوف ينتج عن فشل هذا المشروع بالذات. ذلك أن الترجمات الرديئة قد تشوه عقول أجيال بأسرها، أما الترجمات الجيدة فتؤدي إلى تغذية العقول وتنويرها وترشيدها. من هنا ضرر الترجمات المتسرعة أو الخاطئة على الشبيبة العربية التي ستصنع المستقبل. هل تريدون أمثلة على خطورة الترجمة أو أهميتها؟ من استمع إلى المحاضرة القيمة التي ألقاها علينا البروفسور جان دوليل أدرك معنى الترجمة ودلالتها منذ أقدم العصور وحتى اليوم. وهو أستاذ الترجمة والتأويل في جامعة أوتاوا في كندا. هل تعلم أن مارتن لوثر زعيم الإصلاح الديني في أوروبا أسس اللغة الألمانية عن طريق الترجمة؟ من يصدق ذلك؟ نعم، لقد وحد اللهجات الألمانية المختلفة، وبلور اللغة اللاهوتية والأدبية الألمانية عن طريق ترجمة الكتاب المقدس من اللاتينية إلى الألمانية. وبتوحيد اللغة وحد الشعب نفسه. ومعلوم أنه كان كاتبا ملهما لا يشق له غبار. ولا يزال الألمان حتى اليوم يقرأون الإنجيل والتوراة بترجمته التي تمت قبل أكثر من أربعمائة سنة. لقد قدم لهم أكبر خدمة عن طريق ترجمة كتاب واحد. ثم يقولون لك إن الترجمة ليست إبداعا! لقد وضع الكتاب المقدس تحت تصرف الشعب الألماني كله بعد أن كان حكرا على البابوات والكهنة فقط.

وكلنا يعلم أيضا أن النهضة الأوروبية قامت على أكتاف الترجمات العربية، وبخاصة مؤلفات الفلاسفة والعلماء كالفارابي وابن سينا وابن رشد والغزالي، وسواهم كثيرون. وكلنا يعلم أو ينبغي أن يعلم أن نهضة اليابان المذهلة في عهد سلالة الميجي، أي الحكم المستنير، قامت أواخر القرن التاسع عشر على أكتاف الترجمة من الإنجليزية والفرنسية والألمانية إلى اللغة اليابانية. لقد ترجموا كل شيء تقريبا من علم وفلسفة وتكنولوجيا وآداب.. إلخ. ثم يتحدثون لك بعد كل ذلك عن الغزو الفكري.. لكأنه يمكن أن نقيم جمارك على الفكر! الفرنسيون ترجموا كل الفلسفة الألمانية ولم يخجلوا من اعتبار أنفسهم تلامذة للألمان من هذه الناحية، على الرغم من عبقريتهم ونبوغ فلاسفتهم كديكارت وسواه.

وأحيانا هناك عدة ترجمات للمفكر الواحد. نيتشه حظي بأكثر من أربع أو خمس ترجمات للكتاب الواحد. وكذلك كانط وهيدغر وسواهما من العباقرة. جان هيبوليت أحد كبار أساتذة الجامعة الفرنسية أمضى عمره في ترجمة رائعة هيغل «علم تجليات الروح والفكر عبر العصور» ثم شرحها والتعليق عليها. فإذا بباحث شاب يترجمها لنا مرة أخرى أخيرا.. المؤلفات الكبرى تستحق أكثر من ترجمة واحدة، لأنها غزيرة الدلالات والمعاني، ولا تستنفدها ترجمة واحدة مهما كانت عظيمة. والترجمة الجديدة قد تستدرك ما خفي على الترجمة السابقة. نقول ذلك، وخاصة أنه ينبغي نقل روح المفكر وجوهره وليس فقط ترجمته حرفيا، أو إهمال أحد أبعاده الأساسية. فقد كشف لنا الناقد السوري بدر الدين عرودكي عن الخطأ في ترجمة كافكا إلى العربية من الفرنسية. فهو كاتب ذو أسلوب لاذع مليء بالسخرية ويثير الضحك كثيرا، فإذا بهذا الجانب الأساسي من شخصيته يختفي كليا من الترجمة. فعن أي كافكا نتحدث إذن؟ لنعد ترجمته مرة أخرى، وعن الألمانية بالذات.

أخيرا، سوف أقول ما يلي: لقد شاهدنا أخيرا في الرياض فيلما وثائقيا عن جائزة خادم الحرمين الشريفين للترجمة. وهي جائزة ضخمة سوف تساهم في تشجيع المترجمين ونقل المعارف والعلوم إلى لغتنا العربية. ثم سمعنا عن ظهور جوائز كبرى للترجمة في الإمارات وقطر والكويت والبحرين، وغيرها من بلداننا. وهذا يعني أن العرب ابتدأوا يدركون أهمية الترجمة، والدور الكبير الذي ستلعبه في النهضة العربية المقبلة.