البحث عن بوشكين عربي

TT

لم يهتم ألكسندر بوشكين بأنه أعظم شعراء روسيا؛ أولا وأخيرا، ولم يلتفت إلى ما يقوله النقاد وكيف يقلده الشعراء وكيف يطلب صداقته الأدباء، بل أراد أن يعتبر رجلا أرستقراطيا ووجها اجتماعيا، وكان يحاول أن ينظر باحتقار إلى زملائه ورجال مرحلته. لكن النقاد بدورهم تجاوزوا هذا الضعف الذي لا مبرر له، واكتفوا من بوشكين بعطائه، وقال كبيرهم آنذاك فيساريون بيلنسكي إن «الشعر هدف في حد ذاته لا غاية خلفه. إنه غاية نفسه كما أن الحقيقة غاية المعرفة وكما أن الخير غاية العمل».

ومضى بيلنسكي، على الرغم من التجاهل الذي لقيه من بوشكين، يشرح للروس عظمة شاعرهم. وفي إحدى عشرة مطالعة شهيرة أبلغ الناس أن بوشكين ليس مجرد كاتب أو شاعر عظيم؛ بل هو روح اللغة الروسية الجديدة وهو شاعر الأمة، وخلص إلى إبلاغ الروس بأن بوشكين يمثل في الأدب الروسي ما يمثله بطرس الأكبر للدولة الروسية.. إنه مؤسس الحداثة وحارس التراث.. مفجر اللغة وحارسها. وقد رأى بيلنسكي في شعر بوشكين أمرا بتغيير المجتمع الروسي، ودليلا إلى تناقضاته ونزاعاته النفسية، ونداء إلى الخروج من الظلام إلى ضوء المستقبل.

ولم يكن بوشكين نفسه يدرك أن بيلنسكي هو الذي يحفر له هذه المنزلة في قلوب الروس وفي عقولهم؛ فالناقد الذي بهره عطاء الشاعر المبتكر، لم يرَ فيه مجرد عمل أدبي رفيع ونادر؛ بل رأى فيه شخصا ملهما في تلك المرحلة من تاريخ روسيا. ويرى أشعيا برلين، مؤرخ الأدب الروسي، أنه لم يطغ شاعر على حياة أمة كما طغى بوشكين على حياة روسيا؛ لا شكسبير في بريطانيا، ولا دانتي في إيطاليا، ولا غوتة في ألمانيا، ولا حتى - في رأيه - هوميروس في بلاد الإغريق.

من هو شاعر الأمة عندنا؟ يمثل آمالها وأحلامها وآلامها؟ مؤسف أن روعة الشعر ضاعت في شخصانية الشعراء.. انتقلنا من شاعر القبيلة إلى شاعر القصر؛ مدحا أو هجاء.. وعدا أو عتابا، وضاعت يوميات الناس وهمومهم بلا التفات من شاعر مأخوذ بطموحاته وقضاياه، مترحّل مثل امرئ القيس يبكي منزلا أو يطلب استعادة الملك.

كان علينا أن ننتظر شوقي وحافظ إبراهيم لكي نصغي إلى الشاعر الذي يخاطب الأمة ويكتب لها، أو بعض شعراء القرن التاسع عشر، الذين كتبوا في هموم الأمة، لكنهم لم يبلغوا مرتبة شوقي أو صفة شعراء الأمة. وكان يمكن أن تحتل شاعرية نزار قباني صورة بوشكين العرب، لكن شعر الغزل طغى على كل شيء عنده، حتى بعد مرحلة 1967 و«دفاتر النكسة». وعلى الرغم من النثر السياسي الذي كتبه، فإن نزار ظل في المخيلة العربية شاعر «قالت لي السمراء» والشقراء.. والحنطية.. وما بينهما، إلى أن أطل محمود درويش.. ومعه قصيدته وقضيته.