إسرائيل تهاجم وأوباما يتراجع

TT

الإعلان الإسرائيلي عن إبعاد «المتسللين» الفلسطينيين من غزة إلى قطاع غزة أو إلى الأردن، بداية مرحلة جديدة في الصراع العربي - الإسرائيلي. بداية مرحلة خطرة، يمكن اعتبارها بمثابة إعلان حالة حرب متصلة. إنها بداية تطبيق سياسة «الترانسفير»، سياسة الترحيل الجماعي للفلسطينيين، وصولا إلى «يهودية» الدولة، ثم وصولا إلى طرح حلول إسرائيلية للفلسطينيين وللقضية الفلسطينية، من خلال فكرة الوطن البديل في الأردن التي يرفضها الفلسطينيون والأردنيون، أو من خلال فكرة تبادل الأراضي إقليميا بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية والأردن ومصر، حسب خطة اللواء احتياط غيورا آيلاند، التي عادت إلى الظهور على صعيد دولي.

المظهر الأول في قرار الترحيل الإسرائيلي يمس، أول ما يمس، اتفاق أوسلو، فهو يعبر عن خطة إسرائيلية مؤداها إلغاء اتفاق أوسلو، لأنه يلغي الولاية الجغرافية التي ينص عليها الاتفاق بين قطاع غزة والضفة الغربية ومنطقة أريحا، فيعتبر القادم من غزة إلى الضفة الغربية متسللا.

المظهر الثاني في قرار الترحيل يمس السلطة الفلسطينية، التي أصبحت ممنوعة رسميا من تقرير مصير تابعيها من المواطنين الفلسطينيين، وقد أصبح القرار منذ الآن رهن إرادة الحاكم العسكري الإسرائيلي، فهو الذي يعتقل، وهو الذي يحاكم، وهو الذي يبعد. ومع أن سلطة الاحتلال الإسرائيلي كانت لها دائما سلطة اليد العليا في كل القضايا، بخاصة الأمنية منها، فإنها تتخذ الآن بعدا جديدا، يلغي قاعدة «التعاون» الذي كان قائما بين السلطة الفلسطينية والسلطة المحتلة. فقد جرى العرف بين الطرفين على أن الطرف الفلسطيني يتقدم بطلبات لسلطة الاحتلال يتم بموجبها الحصول على أذون دخول وإقامة دائمة، أما الآن فقد تمت تنحية السلطة الفلسطينية جانبا، ولم يعد لها حتى دور الوسيط، وأصبح الأمر برمته تحت سيطرة الحاكم العسكري الإسرائيلي.

وما دامت هذه الخطة قد بدأت السير في هذا الاتجاه، فإن الخطوة المنطقية الثانية ستكون حول أبناء الضفة الغربية الذين دخلوا «أراضي دولة إسرائيل» وأقاموا فيها حسب القانون الإسرائيلي، وأحيانا تزوجوا من نساء فلسطينيات حسب القانون الإسرائيلي، ثم أنجبوا وأصبح أبناؤهم الآن شبابا يافعين. هؤلاء أصبحوا معرضين لقرارات الإبعاد إلى الضفة الغربية، مع ما يعنيه ذلك من تدمير لبنية العائلة بأكملها.

ولن تكون هاتان الخطوتان، الإبعاد من داخل الضفة الغربية، ثم الإبعاد إلى الضفة الغربية، سوى مقدمة للقرار الإسرائيلي الأكبر والأخطر، وهو التطبيق المتواصل لسياسة الترانسفير، أي سياسة الترحيل الشامل للفلسطينيين من وطنهم إلى حيث يرغبون أو يجبرون، تحقيقا لفكرة «يهودية» الدولة، وسعيا لتغيير التوازن الديمغرافي الذي يقلق إسرائيل.

لقد اتخذت إسرائيل منذ عام 2000، وفي مؤتمر هرتسليا الأول، الذي حضرته آنذاك كل أطياف النخب الإسرائيلية، قرارا استراتيجيا بضرورة العمل من أجل ترحيل الفلسطينيين خارج وطنهم فلسطين، وبلغ عدد هؤلاء الآن مليونا ونصف مليون فلسطيني. ومع أن هذا القرار لم يوضع آنذاك موضع التنفيذ، فإن النقاش السياسي حوله تواصل في إسرائيل، بين داعين لبدء تنفيذ الترحيل بالقوة والإكراه، وداعين لنظرية غريبة تدعو إلى ما يسميونه الترحيل الطوعي، وذلك من خلال تصعيب الحياة بحيث لا يجد المواطن الفلسطيني أمامه من حل سوى الرحيل. وتم بين هذا وذاك وضع خطط سميت خطط تطوير الجليل والنقب، حيث توجد أغلبية فلسطينية، لاستقدام إسرائيليين إلى قلب تلك المناطق، تحقق تغيير التوازن الديمغرافي.

وحين يتطور تطبيق هذه الخطة، وحين يتواصل إبعاد المواطنين، وحين يثور الجدل السياسي حول حقوقهم وحول مصيرهم، ستبادر إسرائيل إلى طرح فكرتها القديمة - الجديدة، حول الوطن الفلسطيني البديل في الأردن، وتكون الأزمة بذلك قد بلغت ذروتها، منبئة بصراعات سياسية، وبحالات تأزم ليس من المستبعد أن تصل إلى التأزم العسكري المنبئ بالمواجهات والحروب.

الخطير في الأمر أن دخول هذه السياسة الإسرائيلية حيز التطبيق، يترافق مع تراجع في الموقف السياسي الأميركي من قضية التسوية السياسية، لا بد أن يحظى بعناية فلسطينية وعربية خاصة. فقد شاع في الأنباء، قبل أيام، أن الولايات المتحدة الأميركية تعتزم طرح خطة للتسوية، وبما يعني أنها خطة للتطبيق، وربما خطة تفرض على الطرفين إذا لم يتم التوافق حولها عبر التفاوض. وقد شاعت هذه الأنباء على أثر استضافة الرئيس باراك أوباما لعدد من مستشاري الأمن القومي السابقين، والذين نصحوه ببلورة خطة أميركية تقوم على قاعدة مفاوضات كامب ديفيد 2000 بين الرئيس الراحل ياسر عرفات ورئيس وزراء إسرائيل آنذاك إيهود باراك، كما تقوم على مشروع الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون للتسوية، والذي أعلنه قبل خمسين يوما من انتهاء ولايته. ولكن ما تم إعلانه بعد ذلك رسميا أو على لسان بعض من حضروا الاجتماع التشاوري في البيت الأبيض، قلل من آفاق التفاؤل وأعاد الموقف الأميركي إلى سابق عهده، إما كموقف غير جدي في رعاية التسوية، أو كموقف منحاز لإسرائيل، وضد مصالح الفلسطينيين والعرب.

الموقف الأميركي الرسمي الذي ألغى نهج التفاؤل الذي روج له الإعلام، جاء على لسان الرئيس الأميركي نفسه، وذلك من خلال تصريحات للصحافيين (رويترز - 13/4/2010) برزت فيها التوجهات التالية:

أولا: تراجع الرئيس أوباما عن كون الخلاف السياسي بينه وبين نتنياهو، وصور الخلاف السياسي شاملا الفلسطينيين والعرب أيضا، فقال «إن الإسرائيليين والفلسطينيين ربما أنهم غير جاهزين لتسوية صراعاتهم، مهما كان حجم الضغط الذي تمارسه واشنطن».

ثانيا: أعلن أن ما ستطرحه أميركا من حلول هو للتفاوض وليس للفرض، فقال «إن الولايات المتحدة لا يمكنها فرض حلول ما لم تكن أطراف هذه الصراعات مستعدة لنبذ الأنماط القديمة للعداء».

ثالثا: أعلن أن التسوية التي سترعاها أميركا، ربما تتعثر وتتوقف، فقال «إن التقدم في قضايا مثل السلام في الشرق الأوسط.. ينبغي ألا يقاس بالأيام والأسابيع، بل إنه سيستغرق وقتا، وسيكون هناك توقف في التقدم، وستكون هناك إحباطات».

ولا نعتقد أن سياسيا أميركيا أعلن تراجعه عن سياسة أطلقها بنفسه، مثلما فعل أوباما. ولا نعتقد أن رئيسا أميركيا تراجع أمام إسرائيل بعد خلاف علني بينهما، مثلما فعل أوباما.

لقد أقدم أوباما على هذا الموقف الذي يلغي أي تفاؤل عربي باحتمال تحسن سياسته، بعد أن تشاور مع كبار الاختصاصيين الأميركيين، وقد بادر أبرز هؤلاء (زبيغنيو بريجنسكي - «واشنطن بوست») إلى إعلان نصيحة لأوباما، وتضمنت هذه النصيحة دعوة صريحة إلى الفلسطينيين للتنازل عن حق العودة، فقال «يعرف القادة الفلسطينيون أنه لا يمكن الوصول إلى سلام من دون التنازل عما يعتقده الكثير من الشعب حقا مقدسا: حق العودة». وبشرنا بريجنسكي بأن من يرفض حلا من هذا النوع سيتعرض لضغط دولي كي يرضخ ويقبل، فقال «إذا تم رفض العرض من أحد الطرفين أو كليهما، فإن الولايات المتحدة سوف تسعى إلى الحصول على موافقة مجلس الأمن على إطار تحقيق السلام هذا، ومن ثم يكون هناك ضغط دولي على الطرف المعترض».

وبهذا تكون جولة اختلاف أوباما ونتنياهو قد انتهت. انتهت بما يرضي إسرائيل. ويبقى أن يستخلص الحاكم العربي معنى ومغزى السياسة الإسرائيلية الجديدة. ومعنى ومغزى التكتيك السياسي الأميركي الجديد. فمثل هذه السياسات تؤذن بالحروب. ومخطئ كل من يرى نذر الحروب ولا يستعد لها.. استعدادا بالسياسة.. واستعدادا بالاقتصاد.. واستعدادا بالقوة.