نقبكم على شونة.. يا سيدتي

TT

في حوارها مع جريدة المصري اليوم (12 أبريل/ نيسان 2010) قالت السيدة نيكول شامبين المسؤولة عن ملف مصر بوزارة الخارجية الأميركية، ردا على سؤال عما إذا كانوا يتقابلون مع الإخوان المسلمين على اعتبار أنها جماعة محظورة طبقا للقانون المصري، كان ردها: «نعم نتقابل مع بعض الأعضاء المستقلين في البرلمان المنتمين إلى الإخوان المسلمين». وحول هذه المقابلات وعما يتم فيها قالت: «لا يمكنني التصريح بفحوى المحادثات الدبلوماسية، فنحن نناقش موضوعات كثيرة».

ولما كنت أنا أيضا أحد المسؤولين عن الملف المصري بغير أن يكلفني بذلك أحد، لذلك فأنا أشعر باهتمام شديد تجاه هؤلاء المسؤولين عن نفس الملف في العالم كله. لا لأنني أكثر منهم معرفة أو خبرة، بل لأنني أشد منهم رغبة في تبادل المعلومات حول نفس الملف. وتعليقا على كل اتصالات الخارجية الأميركية بجماعة الإخوان المصرية المحظورة وغير المحظورة في الوقت نفسه، وبخاصة اتصالاتها بأعضائها المستقلين غير المحظورين، لم أجد وصفا لهذه المقابلات والاتصالات سوى العنوان الذي اخترته لهذا المقال والذي يلخص خبرة المصريين المستمدة من آلاف السنين التي عاشوا فيها على أرض وادي النيل وعرفوا فيها الكثير عن سلوك البشر قبل ظهور علم السياسة والدبلوماسية بوقت طويل.

بالتأكيد السيدة شامبين تعرف معنى هذا المصطلح الشهير، فمن المستحيل أن تكون مسؤولة عن ملف مصر ولا تعرفه. غير أننا سنتولى شرحه للقارئ ولكل المسؤولين عن نفس الملف في الخارجيات الأخرى. هو يعني ببساطة أن النتيجة الوحيدة التي تتحقق من وراء الاتصالات مع جماعة الإخوان المصرية وأي جماعة سياسية دينية أخرى في الشرق الأوسط، هي ضياع الوقت في ما لا نفع فيه. أما حكاية فحوى تفاصيل هذه المباحثات التي ترفض السيدة أن تكشفها فأنا أعرفها جيدا، إنها اللا شيء. أنا علي يقين من أنهم خرجوا من كل هذه الاتصالات بـ«لا شيء» هائلة الحجم. وهنا نترك السياسة ونعود إلى المثل الشعبي لنشرح معنى النقب والتنقيب ومعنى الشونة والتشوين.

نقّب، ينقّب، فعل نستخدمه عندما نحفر الأرض بحثا عن أشياء ثمينة، وأشهر استخدام لهذا الفعل هو التنقيب عن الآثار، أما في الماضي البعيد فالنقابون كانوا ينقبون سطح المبنى أو جداره ليدخلوا من هذا النقب (الفتحة) ليسرقوا ما خفّ وزنه وغلا ثمنه. كانت البيوت في ذلك الوقت متراصة بعضها بجوار بعض، ومن المستحيل التمييز بين أسطحها في الظلام. لذلك كان يحدث أحيانا أن ينقب اللصوص سقفا أو جدارا، مراعين أعلى درجات الدقة والتكتم، ومحاذرين أن يصدروا صوتا لساعات طويلة، ليكتشفوا في النهاية أنهم دخلوا مخزنا للغلال (أي شونة)، من المستحيل الخروج بشيء منها والاستفادة به. غير أن المثل مع مرور الزمن لم يعد له صلة بالسرقة والسراق، بل بهؤلاء الذين يبذلون مجهودا كبيرا للخروج بشيء لا وجود له أصلا.

جماعة الإخوان المصرية أثر من آثار الماضي البعيد، تعود لفترة ازدهار فكرة القومية، وبخاصة في ظل احتلال جاثم على أرض البلاد كان كل مواطن يفكر في طريقة لدحره والتخلص منه. وكانت الفكرة نفسها أيضا صدى لفكرة القومية في أوروبا التي انتهت بنهاية الفاشية والنازية ثم الانفتاح على عصر حقوق الإنسان الفرد الذي لا يحده حدود. وبالعودة إلى أربعينات القرن الماضي ستكتشف أن قلوب المصريين جميعا كانت معلقة بانتصار هتلر على الحلفاء. هكذا كان من السهل عليهم اعتناق فكرة أنه أسلم وسمّى نفسه الحاج محمد هتلر. صدقوا ذلك لأنهم أرادوا أن يصدقوا ذلك. الغريب في الأمر أن الملك فاروق آخر ملوك مصر لم يتنبه إلى أن قيم الغرب السياسية هي التي انتصرت لا جيوشه فقط، لذلك ظل على حاله في الإعجاب بالفاشية والنازية.

في مثل هذا الجو كان من الطبيعي أن تنشأ عشرات التنظيمات السرية التي تناضل من أجل ذات الهدف وهو خروج الإنجليز، وبالتأكيد كان تنظيم جماعة الإخوان هو أهم هذه التنظيمات وأقواها في هذه البيئة الحاضنة للأفكار الوطنية والقومية الملتهبة، أضف إلى ذلك بالطبع البعد الديني في شعب عرف القيم الدينية من عقاب وثواب قبل ظهور الأديان السماوية بآلاف السنين.

بعد هزيمة كل الجيوش العربية في حرب فلسطين عام 1948 ازدادت قوة جماعة الإخوان؛ كل الجماعات الثورية تقوى بعد الهزائم الكلية. هذا ما يفسر ذهاب جمال عبد الناصر وخالد محيي الدين إلى مقر الإخوان في الحلمية الجديدة بحي السيدة زينب ليقسما على المصحف والمسدس (راجع: الآن أتكلم - خالد محيي الدين) في غرفة خافتة النور. على أي شيء أقسم الرجلان؟ لا نعرف بالضبط، ولكن من المستحيل بالطبع أن يكونا قد أقسما على عدم الانضمام إلى الجماعة وبالتحديد إلى التنظيم السري التابع لها. حتى الآن لم يقل لنا أحد طبيعة العلاقة بين جماعة الإخوان وتنظيم الضباط الأحرار في الفترة التي سبقت الثورة مباشرة، تلك الثورة التي يراها بعض الناس انقلابا عسكريا.

حتى الآن، البيئة السياسية الحاضنة للجماعة في مصر كانت قوية للغاية، ثم حدث الصراع بينهم وبين عبد الناصر الناشئ، ربما عن سوء فهم. لقد فهموا أنه أقسم على السمع والطاعة لهم، بينما هو فهم القسم على نحو مغاير، وهو أن يطيعوه ويسمعوا كلامه بعد أن وصل إلى السلطة، وهو الأمر الذي لم يحدث. مرت سنوات طويلة من الانكسار والضعف على الجماعة تحت ضغط السجون والمعتقلات والإنجازات أيضا، على الأقل خرج الاستعمار الإنجليزي من مصر. ثم جاء السادات ليجد نفسه في مواجهة عدو جديد قديم هو تشكيلات النظام الناصري بكل كتائبه من اليسار بألوان الطيف. فتح على الفور درج مكتبه وأخرج الجماعة ليخوض بهم معركته الجديدة. فعادت الجماعة للتماسك بقوة وأخذت في تديين كل مناحي الحياة في مصر إلى أن انتهى الأمر باغتياله بواسطة أشخاص تابعين لنفس التيار لا لنفس الجماعة.

والآن.. لماذا أقول عنهم إنهم مجرد أثر من آثار الماضي؟

البيئة الحاضنة للدكتاتورية لم يعد لها وجود، وتكنولوجيا العصر الحديث في الاتصال أنتجت أجيالا لا تفهم حكاية السمع والطاعة، وبدأوا يناقشون قياداتهم على أساس علمي وأرضي. فكان لا بد من الرد عليهم بطرد كل هؤلاء الذين تسربت روح الحرية إلى قلوبهم، هكذا عصفوا بكل العناصر الليبرالية في الجماعة. من المستحيل أن تعرف الخارجية الأميركية أو أي خارجية أخري شيئا محددا من الجماعة، لأن مرجعيتهم سماوية عندما يتطلب الأمر ذلك، وأرضية دينية سياسية عندما يحتم الأمر ذلك. هذا هو بالضبط سلوك كل من يخدم سيّدَين. كان استيلاء صدّام على الكويت وطرده منها أمرا حاسما في تاريخ الجماعة، لا هم وقفوا مع السعودية التي وفرت لهم الحماية والفلوس لسنوات طويلة، ولا القيادة الثورية الفلسطينية في ذلك الوقت وقفت إلى جانب الشعب الكويتي الذي كان بمثابة قلعة حامية لهم أيضا لسنوات طويلة.

التفكير المتطرف - الديني والسياسي - لا مرجعية له يمكن الاعتماد عليها. تستطيع أن تتكلم مع المتطرف حتى مطلع الفجر، وأتحداك أن تخرج منه بكلمة مفهومة تشكّل موقفا يمكن الرجوع إليه أو الاعتماد عليه. إنها ليست الازدواجية السياسية التي نتهم بها عادة ساسة الغرب علي سبيل الإسقاط، بل هو نوع من السلوك الذي يمشي في اتجاهين متناقضين بنفس القوة وفي نفس الوقت (Ambivalence)، وهو ما يشرحه المصطلح الشعبي بالقول: «عين في الجنة وعين في النار»، وهو ما ينتج عنه بشر من المستحيل تعرُّف مواقفهم العملية طبقا لما يقولونه لك. لا يوجد قول واحد، وإن وُجد ففيه قولان أو أكثر. أنا أريدك أن تفكر معي في بعض المصطلحات الشعبية الأخرى التي تصف شخصا ما بأنه «يودّيك البحر (يقصد النيل) ويرجّعك عطشان»، و«ما يبلّش ريقك» و«ما يدّيكش عقّاد نافع» و«إيدك منه والأرض». في اللحظة التي تقرر فيها أنك عضو جماعة دينية دعوية، وأنك أيضا، بنفس المعنى ونفس الكيفية، عضو في جماعة سياسية، فلا بد أن تكون بكل المواصفات السابقة حتى لو كنت لا تقصد ذلك.