بطولة مدينة

TT

ذكرت في ما سبق كيف أن بطولات الشعوب تتجلى في أروع صورها لا في غزو أراضي الآخرين أو الاستيلاء على بلادهم وإنما في الاستماتة دفاعا عن أرضك. هكذا اشتهر الروس في دفاعهم عن ستالينغراد التي خلدها الجواهري في قصيدته:

أي ستالين وما أعظمها/ في التهجي أحرفا تأبى الهجاء.

لم أر ستالينغراد ولكنني شهدت في بلجيكا مدينة أيبر التي حاول الألمان في الحرب العظمى الاستيلاء عليها فأبَت وتأبّت. بلغ مَن قُتل من أجلها نحو نصف مليون شاب في تلك الخنادق اللعينة التي جرى القتال فيها بالسكاكين والحراب. ترك الأولاد مدارسهم وهبّوا للجبهة يحفرون هذه الأميال من الخنادق العميقة. وعندما تساقطت أمطار غزيرة متواصلة تحولت إلى مستنقعات من الطين والوحل والماء لا يدري الجندي كيف يقاتل وينام فيها. قرروا تغطية أرضية الخندق بالأخشاب ليستطيعوا الوقوف ويدافعوا. تطوعت ربات البيوت بخلع أبواب بيوتهن وحملها لتصبح أرضية للخنادق. ووقفن وراء الخنادق يحملن عدة الإسعافات الأولية لإغاثة من لا يموت.

بدأت المعركة بفتح مئات المدافع الألمانية نيرانها على الخنادق. نصف ساعة ثم دوت صرخة الآمر: «هجوم». قفز ألوف الجنود الألمان من خنادقهم ليواجهوا فورا وابل الرشاشات البريطانية. خمس دقائق وتحولوا إلى أكوام من الأشلاء الممزقة. «هجوم».. صرخ الآمر ثانية لتنطلق الموجة الثانية من البشر وتلقى نفس المصير وتخمد إلا من أنين الجرحى وصراخ الاستغاثة. ودوت صرخة ثالثة: «هجوم». آن أوان جنود الموجة الثالثة. والرشاشات البريطانية تحصدهم موجة بعد موجة... وحل المساء والمطر الغزير يضرب ويغسل الدماء. ونفد العتاد ولم يبقَ من يقفز من الخندق. وفي الليل جاءت إمدادات جديدة. مزيد من الرجال والعتاد. ارتموا في الخنادق ساعة من النوم في الطين ينتظرون صيحة الآمر عند طلوع الفجر... ودوت الصيحة: «هجوم». ولكن لم يستجب أحد. لم يقفز أحد. رموا حرابهم وبنادقهم على الأرض. «كلا! لا نريد أن نموت!» وتجاوب ضباطهم معهم. وسرت حركة العصيان في ميادين الجبهة. وانتهت الحرب.

كانت المدافع في أثناء ذلك، تصبّ حممها على أيبر حتى حولتها قاعا صفصفا. وبعد إعلان الهدنة، أبرق تشرشل إلى عمدة المدينة يعلن رغبة الحكومة البريطانية في شراء المدينة لتبقى شاهدا خالدا على بسالة الجيش البريطاني. فأجابه العمدة: «كلا، نحن لا نبيع مدننا! سنعيد بناء أيبر كما كانت تماما لتبقى شاهدا على عزيمة الشعب البلجيكي».

دخلتُ المدينة وتفرجت على متحفها العسكري. تفرجت على دائرة البريد التي أعادوا بناءها كما كانت تماما. ووقفت أمام ذلك القوس المهيب، قوس النصر الذي يحمل أسماء 55 ألف جندي بريطاني ماتوا دون العثور على أشلائهم. ومنذ 1918 يخرج كل مساء فصيل من الجنود ينكسون بنادقهم تحت القوس فيما ينطلق البوّاق يعزف ببوقه المنفرد سلام «الموقع الأخير» (Last Post) تحية لكل من استُشهدوا في الدفاع عن المدينة.

وفيها تجد الآن أحسن أنواع الشيكولاته في العالم، 80 نوعا منها، وأحسن أنواع، الجعة 300 نوع منها.

تِلْكُمُ التُّرْبَةُ لاَ مَا سُمِّيَتْ/ وَطَنًا يُنْبِتُ جُوعًا وَعَرَاء!