غصن رعي الحمام

TT

يكرر الرئيس أوباما دائما عندما يتحدث حول قضايا التعليم أنه يتمنى أن يتقاطع طريق كل طفل من أطفالنا مع مدرس بإمكانه الضغط على إضاءة النور لتغيير حياة ذلك الطفل. وفي كل مرة يتحدث فيها حول تلك الفكرة، أعتقد أن الآلاف وربما الملايين يستدعون شخصا ما قام بذلك الدور في حياتهم. المعلم الملهم، أو في حالتي، كان هو الشخص الذي حمل غصنا متخيلا من نبات رعي الحمام وقربه من أنفه واستنشق عطره بعمق، في إشارة إلى تماهيه مع وليام فوكنر.

لقد وقع ذلك المشهد الذي وصفته للتو، خلال حصة اللغة الإنجليزية وأنا في صفي الحادي عشر، أي قبل عدة أعوام من الآن. وبالرغم من أن ذلك المدرس كان مدرسي لثلاثة أشهر فقط فإنه استطاع تغيير حياتي بأكملها. وقد تذكرته يوم الاثنين عندما حصلت على جائزة «بوليتزر» عن المقالات التي أكتبها.

وفي مثل تلك المناسبات، من المتوقع أن يذكر المرء الأشخاص الذين ساعدوه على تحقيق النجاح، ولكن ربما يصاب المرء في تلك المناسبات أيضا بالتشوش أو عدم القدرة على تذكر اسمه أو الأشخاص الذين يستحقون أن تذكر أسماؤهم. ولكنني أحب أن أصحح الموقف بذكر ذلك الشخص المميز الذي يحتفل بعامه الخمسين من التدريس.

فقد أصبحت واقعية في دروس جيمس غاسك في مارس (آذار) من ذلك العام الدراسي، لأسباب يحتاج ذكرها إلى يوم آخر. ويكفي أن نقول إنني لم أكن أعرف أي أحد وأنني جئت من مدرسة عليا صغيرة بوسط فلوريدا، لم يكن بها أي شخص معني بتدريس بنية الجملة. وبالتالي، كان زملائي بمدرسة دريهير متقدمين جدا علي، وفي أحد الأيام طلب مني غاسك أن أحدد بعض أجزاء جملة كتبها على السبورة. وكان يقف وظهره إلى الطلاب وهو يحمل في يده الطبشور وينتظر بصبر لكي يدون ما سأقوله على السبورة.

لا شك في أن جميع الناس خبروا ذلك الإحساس بالعجز الذي يتعرض له المرء عندما يقف أمام أقرانه الذين ينتظرون منه إجابة لا يعرفها. وأعتقد أن ما قلته كان سخيفا للغاية، لأن زملائي انفجروا ضاحكين.

لم أنس تلك اللحظة أو ما تلاها طوال الأعوام الماضية. فبينما كنت أفكر في طريقة أختبئ بها أسفل مكتبي، منحني غاسك قطعة حلوى برتقالية اللون ومغطاة بالسكر، ثم قام بعمل دورة كاملة حول نفسه، لا أعتقد أنني رأيت أبدا أفضل منها؛ حتى أصبح، على نحو مفاجئ، في مواجهة طلابه، وقال لهم ووجهه محتقن بالدماء وصوته يرتعش غضبا: «إياكم والسخرية منها مرة أخرى. فبإمكانها أن تصبح أفضل منكم جميعا».

ليس من السهل وصف إحساسي بالعرفان بالجميل في تلك اللحظة. فقد توقف الزمن وتدليت بخفة من زغب سحابة في الوقت الذي غرق فيه زملائي في صمت مذهل. بل إنني ما زلت أتدلى من تلك السحابة حتى الآن، مثل أسماء الفاعل السخيفة التي أصبحت على دراية تامة بها. ولا يتذكر أحد، غيري، على الأرجح سلوكيات غاسك الأبوية ولكنني نعمت بتلك الكلمات. وباعتقادي أن ما قاله ربما يكون صحيحا. وفي ذلك اليوم، بدأت أحاول أن أكتب طالما أنه قال إنني أستطيع ذلك. وما زلت أحاول. ومما لا شك فيه أن كل طلاب غاسك استفادوا من مواهبه، فقد ظل رمز «غصن رعي الحمام»، وهو الرمز المتكرر في رواية «الذي لا يقهر» لفوكنر عالقا في ذهني، لأنه يرمز إلى العاطفة القوية التي أضفاها غاسك على التدريس وعلى الأدب الذي يعشقه.

فخلال الاثني عشر أسبوعا التي قضيتها في فصله، قرأنا بحماس «الذي لا يقهر» لفوكنر، و«رجال وفئران» لجون شتاينبك. وما زلت أتذكر كل كلمة وإحساس بهاتين الروايتين. فقد كان يقول وهو يستنشق الهواء بعمق: «لقد كنت أرغب دائما في أن أميل من الشرفة الخلفية وألتقط غصن رعي الحمام». ثم كان يطلق زفيرا ويرجع رأسه إلى الوراء ويغلق عينيه، فكان يبدو وكأنه قد انتقل إلى عالم تفوح منه رائحة الليمون، أو إلى العالم الذي يصبح فيه لرعي الحمام رائحة الشجاعة. أغلقت عيني واتبعته. بعد ذلك بعقدين، وبعدما انتقلت إلى كارولينا الجنوبية، ذهبت لزيارة غاسك وأنا أحمل معي زهور رعي الحمام. في البداية لم يتذكرني، ولكنه بعد أن استمع إلى روايتي، طلب مني أن أتحدث إلى طلابه، ثم انسالت الدموع على خديه، وهو يقدمني من خلال ورقتين من مفكرتي، كانتا تحملان مقالتي حول «الذي لا يقهر».

لقد كان أوباما محقا بشأن قوة المعلمين. أشكرك يا غاسك.

* خدمة «واشنطن بوست»