ثقافة النخبة والثقافة الشعبية

TT

لا أريد أن أدخل في متاهة تعريف الثقافة. أكتفي بالحديث هنا عن الثقافة كمعرفة إنسانية موروثة أو مكتسبة. وعن الثقافة كدلالة على نضج أو تخلف سياسي واجتماعي، وصولا إلى سؤال كبير: هل نحن العرب أمة واعية لموقفها من العصر؟ هل رؤيتها لسياستها ولسياسات العالم تجاهها، تنطلق من تحليل ثقافي منطقي وعقلاني؟

السؤال يوحي بأني أتجه إلى تخطئة وإدانة الثقافة السياسية والاجتماعية السائدة اليوم في المجتمع العربي، في عدائها العميق لأميركا خصوصا، وللغرب عموما. أبادر سلفا إلى القول إني لا أجد في هذه الثقافة سلبية سياسية تدينها. العرب لم يرثوا العداء الراهن لأميركا، مع أسمائهم التي ولدوا بها. العداء لأميركا ليس بثقافة موروثة. إنما ثقافة تراكمت واكتسبت، كرد فعل طبيعي على انحياز أميركا الطويل لإسرائيل.

أحب التاريخ. أومن بأن لا نجاح للجيل الجديد من كتاب السياسة العرب، من دون معرفة ودراسة عميقتين للتاريخ العربي التراثي والمعاصر. ها أنا أعود إلى هذا التاريخ، للدلالة على أن العرب انفتحوا على أميركا، منذ الحرب العالمية الأولى.

بعد الحرب، قال الزعيم السوري المثقف عبد الرحمن الشهبندر، علنا وصراحة (1922)، إنه إذا لم يكن بد من انتداب دولي على العرب، فليكن أميركيا، بعدما غدرت أوروبا بأملهم في الاستقلال والوحدة، وفرضت انتدابها واستعمارها عليهم بالقوة.

بعد إعلان الشهبندر بنحو عشرين سنة، وخلاصا من أوروبا الاستعمارية، ونير شركاتها النفطية الاحتكارية، استعان عبد العزيز آل سعود بالتقنية النفطية الأميركية، في استيلاد الموارد الوطنية اللازمة للتنمية وتطوير المجتمع السعودي. لكن في وعيه السياسي المبكر، حذر ابن سعود أميركا من أن بناء علاقة عربية / أميركية ثابتة ومستقرة، يتوقف على التزام أميركا بسياسة نزيهة تجاه العرب.

لماذا خسرت أميركا هذا الود العربي؟ لماذا تحول الود العابر، إلى ثقافة معادية؟ لا ضرورة للشرح والإطالة. تسلم أحد عشر رئيسا أميركيا من أوروبا المشروع الصهيوني. تعهدوه بالسقاية والرعاية تمويلا. تسليحا. حروبا. توسعا. احتلالا.

الجديد أن المثقف أوباما، الرئيس الثاني عشر، يحاول تبديد الثقافة العربية المعادية لأميركا. من القاهرة، مد أوباما يد المصالحة إلى 350 مليون عربي. في أزمة إدارته مع إسرائيل ليبرمان ونتنياهو، استعان أوباما باللوبي العسكري الذي يخوض حروب أميركا في أفغانستان وباكستان والعراق، لإقناع «لوبيات» أميركا، بأن إسرائيل باتت عبئا استراتيجيا على المصالح والعلاقة الأميركية مع العالمين العربي والإسلامي. لكن أوباما عجز عن زحزحة نصف مليون مستوطن غزوا الضفة والقدس. إلى الآن، ما زال الثلاثي الحاكم (أوباما. هيلاري. بايدن) يسمي «الاستيطان» مجرد «إسكان»!

لكن هل يمكن بناء سياسة داخلية واجتماعية عربية، على مجرد استغلال ثقافة العداء لأميركا والكراهية للغرب؟ للإجابة، لا بد من فرز عناصر الثقافة السياسية العربية السائدة اليوم. هناك أولا، عنصر الاعتقاد الشعبي بأن الجهاد «الحربي» قادر على إلحاق الهزيمة بأميركا وإسرائيل معا. الطريف هنا أن أميركا، منذ تردي الثقافة العربية القومية، ساهمت في تربية وتنمية الثقافة «الجهادية». بل استخدمتها في الحرب الباردة ضد السوفيات. عندما انتصرت أغمدت السيف الجهادي عندها، لم يجد مفاتي ومراجع هذه الجهادية، سوى استثارة العاطفة الدينية الشعبية، بإعلان «الجهاد» ضد أميركا «الكافرة الزنديقة». آه. واكتشفوا متأخرين انحيازها إلى إسرائيل!

العنصر الثاني، في الثقافة الشعبية، يتغذى من العنصر الأول. بحجة محاربة الجهاد «الحربي»، زحفت إلى الشاشات الرسمية والخاصة، المرجعيات الدينية، من تقليدية متحالفة مع السلطة. إلى إيرانية متمترسة بالسلطة. إلى إخوانية ساعية إليها. تم استغلال عداء المجتمع لأميركا، لتلقينه ثقافة معادية أيضا لحرية الفكر. ولتحريضه ضد كل ثقافة عربية تعددية. ضد كل كتاب يمزج ما بين التراث من عطاء، وما في الفكر الإنساني عموما، والغربي خصوصا، من جديد مبتكر.

نتيجة لهذه الثقافة الشعبية التلقينية التي مزجت بين العداء المنطقي لأميركا، واللامبالاة بحماية الثقافة التعددية، نشأت هوة عميقة بين ثقافة النخبة، والثقافة الشعبية السائدة، بحيث لا شيء بات يجمع بين مثقفي النخبة ومراجع التلقين الشعبي، سوى هذا العداء لأميركا.

في هذا التباين المرجعي / الثقافي، كانت ثقافة النخبة هي الخاسر. المثقف بات مدانا سلفا: المثقف العربي «علماني ملحد»! النخبة المثقفة، بسبب قلتها وتوزعها وشقاقاتها الثقافية والأدبية، لم تعرف كيف تدافع عن نفسها وثقافتها إزاء عداء المرجعية. وسلبية المجتمع. ولا مبالاة النظام.

لم تعرف النخبة المثقفة كيف تعلن، بكرامة وكبرياء، عن اعتقادها بأن الدين مكون أساسي للشخصية التاريخية العربية، وبالتالي لا يمكن الفصل بين الإسلام والعروبة، بتهمة «العلمانية الملحدة». ولا يمكن القول إن هناك ثقافة عربية علمانية، أو حتى دولة عربية «علمانية وإسلامية» كما قال الرئيس السوري لتلفزيون حسن نصر الله.

على أية حال، هناك سوء فهم مرجعي متعمد للعلمانية، في هذه المبالغة برميها بـ«الإلحاد». باختصار، العلمانية استهدفت أصلا تحرير المدرسة الأوروبية من كنيسة القرون الوسطى التي عادت حرية الفكر والعلم. شخصيا، أشك حتى في وجود علمانية أوروبية: معظم الأعياد الرسمية دينية. ملكيات تترأس رمزيا الكنيسة المسيحية. معظم الفرنسيين القادرين يرسلون أولادهم إلى مدارس كاثوليكية، وليس إلى مدارس الدولة «العلمانية». علمانية مجلة «الإيكونوميست» البريطانية لم تخجل من التأكيد، منذ سنوات، بأن لا إمكانية لقبول تركيا المسلمة في الاتحاد الأوروبي، لأنه «ناد مسيحي».

هناك خجل من نوع آخر. هناك مثقفون ماركسيون وقوميون باتوا يقبلون، بلا مراعاة لكبرياء المبدأ والآيديولوجيا، بقيام دولة عربية ثيوقراطية يحكمها رجال دين متسيسون، أو دولة حماسية أو طالبانية يديرها إخوانيون أو جهاديون. هؤلاء المثقفون لا يعتبرون بما جرى للتجربة الثيوقراطية الإيرانية.

هناك مثقفون يركبون الموجة الدينية، لأسباب مصلحية وانتهازية. هناك مثقفون يخشون الحوار العلني مع المراجع الدينية المتسيسة. ما من مثقف يجرؤ على القول أن لا قداسة لخامنه ئي. حسن حزب الله. البدري. القرضاوي...

ولا حصانة من النقد، لأي رجل دين يعمل في السياسة.

وهناك مثقفون يرتدون ببراءة، إلى موقع «اللا منتمي» العاجي، مسجلين في عزلتهم احتجاجهم الصامت على ثقافة شعبية، يعتبرونها مريضة بالسذاجة والسطحية والانفعال. ثقافة أسيرة التحليل العاطفي للسياسات. ثقافة تقبل بفن غنائي هابط، أو تدعم مرجعيات معادية لحرية الفكر.

إذا كان من الصعب بناء السياسة الداخلية على الدين فحسب، فمن البديهي أن يكون مستحيلا بناء سياسة خارجية، على أساس تكتل ديني دولي. الدين منظومة أخلاقية صارمة لا يجوز تسخيرها لخدمة سياسات ذات أهواء مختلفة، قد لا تتفق مع الصرامة الأخلاقية الدينية. الدين استقامة. السياسة مناورة. التاريخ الإنساني قدم المشاهد تلو المشاهد، على أن الصرامة الدينية، في مواقفها التي لا تتزحزح عنها، من شأنها أن تؤدي إلى نشوب حروب، كانت المناورة السياسية أو فن المساومة والتسوية الدبلوماسي، كفيلين بتفادي مآسيها.

ماذا إذا قام تكتل ديني أوروبي / أميركي؟ هل العرب قادرون - كما يزعم مفاتي الجهاد الحربي - على استضافة حروب دينية مدمرة، استغرقت في المرة الأولى ثلاثة قرون. واستغرقت في المرة الثانية قرنين استعماريين آخرين؟