السياسة السودانية وتحديات ما بعد الانتخابات

TT

ستعيد الانتخابات السودانية، التي جرت أخيرا، تركيب البنية السياسية بأكملها في السودان، حيث إنها أضخم وأعقد عملية سياسية جرت في البلاد منذ الاستقلال، وربما أضخم وأعقد عملية انتخابية جرت في وقت واحد في أي مكان في العالم. ويقضي نظام الانتخابات بالتصويت لثماني بطاقات للمواطن الشمالي واثنتي عشرة بطاقة للمواطن الجنوبي. وتمثل كل واحدة من هذه البطاقات مستوى من مستويات الحكم التشريعي أو التنفيذي. وبموجب ذلك، مثلا، فإن البطاقة الأولى الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية ترمي إلى تكريس نظام حكم رئاسي، مختلف تماما عن النظام البرلماني الذي نسخ عشية الاستقلال من النموذج البريطاني، لكنه لم يثبت جدواه ولم يترسخ في الوجدان السوداني الشرقي الذي يفضل أن يقوده زعيم معلوم الشخص والهيئة من أن يقوده برلمان سمته الجدال والشجار.

البطاقة الثانية ترمي إلى انتخاب الولاة (أي حكام الولايات) الخمسة والعشرين، وبموجب ذلك ينشأ نظام حكم اتحادي لا مركزي يعالج قضايا المطالب الإقليمية التي نشطت وازدهرت حتى وصلت حد المطالبة بتقرير المصير وربما الانفصال.

ودون الخوض في التفاصيل، فإن بقية البطاقات تكرس سمات جديدة للنظام السياسي هي من الأهمية بمكان عال. إذ يخصص قانون الانتخابات حدا أدنى للنساء يبلغ 25% من مقاعد البرلمان، كما يمزج القانون بين مقاعد ينتخب لها انتخابا مباشرا وأخرى ينتخب لها بنظام التمثيل النسبي في المجلس الوطني على المستوى القومي وفي المجالس التشريعية على مستوى الولايات. وقد قصد من نظام التمثيل النسبي تحري قدر أكبر من العدالة مع الأحزاب الصغيرة التي لم تكن تجد في نظام ويستمنستر البريطاني السابق فرصة للتمثيل، لأن أساس ذلك النظام هو مبدأ (الفائز يحوز جميع المكاسب). إذا صحت المؤشرات الصادرة من مراكز الاقتراع فإن حزب المؤتمر الوطني سيكتسح الانتخابات التي أجريت أخيرا في السودان؛ وهو نصر مستحق لأن المؤتمر الوطني كان الحزب الأكفأ والأكثر أهلية من جميع النواحي: التنظيم، والتشبيك، والحركية، ووضوح الرؤية، وفاعلية القيادة.

بمقابل ذلك عانى منافسوه من مشكلات في جميع تلك النواحي، وكانت أسوأ إخفاقاتهم متعلقة بوضوح الرؤية والإشارات التي أرسلوها إلى أتباعهم بصفة خاصة والساحة السياسية بصفة عامة: الحركة الشعبية مثلا، بقرارها عدم خوض الانتخابات في الشمال، خذلت أنصار مشروع السودان الجديد، وأصدرت إقرارا عمليا بكونها حركة إقليمية محدودة الأفق والتطلعات؛ أما الأحزاب التقليدية فظلت تصدر إلى آخر لحظة إشارات مربكة حول مشاركتها في السباق. ولا شك أن انتصار المؤتمر الوطني معزو، جزئيا، إلى إخفاق تلك الأحزاب في أن تقدم بديلا مقنعا، فالسيكولوجية الجمعية تفضل، أمام الخيارات المرتبكة، أن تتعامل مع ما تعرفه وتفهمه لا مع ما لا تفهم هويته ولا تأمن مقاصده.

الانتصار الأكبر كان لجمهور السودانيين الذين سلكوا سلوكا سلميا راقيا في الاقتراع، مما جعل المراقبين يجمعون على الإشادة بذلك المسلك خاصة. بمقابل ذلك، تفاوتت آراء المراقبين بين من أصدر صك اعتراف كامل بالانتخابات وأشاد بها، مثل الاتحاد الأفريقي ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وبين من أصدر صك اعتراف مشروط مثل الاتحاد الأوروبي ومركز كارتر. لكن نقد هؤلاء الأخيرين لم يتوجه إلى نزاهة الانتخابات وصحتها وإنما إلى جملة من أخطاء فنية وإدارية ولوجستية دفعت مفوضية الانتخابات إلى أن تصدر قرارا بإعادة الانتخابات في عدد من الدوائر. ومثل تلك الأخطاء ليس مما يقدح في نزاهة الانتخابات لأنها ليست موجهة ضد ناخب بعينه، بل يتأثر بها جميع الناخبين، فمرشحو المؤتمر الوطني عانوا كما عانى غيرهم من سقوط أسماء مؤيديهم واختلاط بطاقات الاقتراع في بعض الدوائر.

لكن الانتصارات، سواء أكانت لحزب بعينه أم للبلاد عامة، يمكن أن تتحول إلى هزائم في المدى الطويل والمتوسط إذا لم يصحبها مجهود فكري وتنظيمي لتعزيز مكاسبها واجتناء عطاياها. البطر والغرور هما أعدى أعداء النصر، وكذاك الإخفاق في تحليل النتائج واستقراء دلالاتها وإعادة ترتيب الأولويات والمهام. إن أول ما ينبغي أن ينصرف إليه التفكير في هذا الصدد هو الفرز الدقيق للمسؤوليات التي تطرحها الانتخابات ونتائجها في ثلاثة أصعدة: الصعيد الذاتي، أي الخاص بالمؤتمر الوطني باعتباره الحزب الذي سيحدد مسلكه صورة السياسة السودانية لسنوات خمس قادمة؛ والصعيد الوطني العام الذي يشكله توارد جملة من القضايا الوطنية الكبرى في الأعوام التالية؛ وأخيرا الصعيد الخارجي، أي ما تطرحه النتائج السياسية للانتخابات من معطيات تعيد تشكيل علاقات السودان الرسمية والشعبية بجواره وبالعالم. وبما أن تناول هذا الصعيد الأخير سيحتل مساحة كبيرة من هذه الورقة العجلى فسأتجاوزه إلى الحديث الموجز عن الصعيدين الأولين.

بالنسبة للمؤتمر الوطني فقد أثبت أهليته لأن يكون حركة سياسية حديثة ومعاصرة، لا هي طائفية ولا قبلية ولا جهوية، بل حركة سياسية واجتماعية مفتوحة لجميع السودانيين الراغبين في الالتحاق بها والعمل من خلالها. وهناك موجة من التأييد أفرزتها الانتخابات ينبغي استثمارها وتحويلها إلى مكاسب تنظيمية وتوسيع ولاء وتكريس تقاليد عمل تعمق الارتباط بالجماهير وتعين على قراءة اتجاهات المجتمع واحترام مطالبه وأولوياته. ولا بد من إدراك أن فكرة الحزبية في جوهرها، سواء بالنسبة للمؤتمر الوطني أو لبقية الأحزاب، قد أخذت تعاني من منافسة شرسة من تشكيلات حديثة مناهضة مثل تنظيمات المجتمع المدني التي أصبحت مأوى للمثقفين المتمردين على الحزبية القديمة. وللغرابة والمفارقة فإن من أكبر التحديات التي تواجه المؤتمر الوطني هي مهمة الجمع بين الجماهيرية التي تستوعب طاقات المجتمع العفوية، مع قدر من الصفوية التي تلبي تطلعات الفئة المتوسطة والمثقفين والمفكرين الذين لا غنى عنهم في بناء الأفكار وإطلاق المبادرات التي تقود النهضة. إن أعجل ما يستحق النظر، فيما يتعلق بالصعيد الثاني وهو المسؤوليات والأولويات الوطنية، هي مسألة موقف القوى السياسية من غير المؤتمر الوطني مع حدث الانتخابات. مفهوم أن بعض تلك القوى غير راض، بل غير مؤيد، بل غير معترف بنتيجة الانتخابات، وهو موقف يصعب الثبات عليه في إطار تفويض انتخابي محلي قوي واعتراف دولي بالانتخابات. وسيكون على المؤتمر أن يعين تلك القوى على اتخاذ الموقف البناء تأسيسا على حقيقة النتائج. النجاح في هذه المهمة سيعني اتخاذ الوضعية الصحيحة للتعامل مع أعجل قضية وطنية تالية وهي مسألة الاستفتاء في الجنوب واحتمالات الانفصال. وبينما يمكن التسليم بقدرة المؤتمر الوطني على أن يخوض تحدي الوحدة الوطنية وحده، فهو لا تنقصه الكفاءات ولا الخبرة، فإن النتائج ستكون أفضل إذا جابه المؤتمر الوطني تحديا كهذا في ظل تماسك وطني ورؤية مشتركة تتوافر على أكبر إجماع ممكن لدى القوى السياسية. في هذا السياق وردت الدعوة إلى إنشاء حكومة ذات قاعدة عريضة. كيف تكون الدعوة إلى مثل هذه الحكومة، ومن تشمل ولا تشمل، هي قضية تفصيلية لكن أصل الدعوة وجوهرها صحيح، وهي دعوة ترسل إشارة طمأنة ضرورية بأن المؤتمر لا يرغب في احتكار الساحة السياسية من حيث الرؤى والمواقف ولا احتكار المناصب من حيث مواقع السلطة.

من المدهش أن الاستجابة التي صدرت من بعض القوى السياسية تجاه هذه الدعوة حتى الآن هي من شاكلة اتهام النوايا دون النظر إلى جوهر الفكرة وجدواها. ويبدو أن أزمة النضج السياسي ما زالت تشكل عائقا أمام بعض القوى أو بعض الشخصيات السياسية في التعامل الراشد. فاتهام النوايا ليس مجديا في السياسة لأن إثباته أو نفيه غير متحقق وغير مجد - المجدي هو النظر النقدي في جوهر الأفكار. وينبغي أن يعلم الجميع أن القدرة على إطلاق الأفكار الحية والخلاقة هي التي ستعطي أي متنافس ميزة نسبية في معارك السياسة التالية.

* مستشار الرئيس السوداني ومسؤول ملف دارفور

في الحكومة السودانية