بركان العولمة

TT

لم يكن أحد ليخطر على باله قبل أسابيع أنه يمكن لدخان متصاعد من بركان في أقصى شمال الكرة الأرضية أن تمتد آثاره إنسانيا واقتصاديا إلى أقصى إجراء المعمورة مع وضع أصعب مما حدث بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) التي أُلغيت بعدها رحلات الطيران بين الأطلسي لعدة أيام بالنسبة إلى صناعة النقل الجوي.

لكنها الطبيعة بما تختزنه من مفاجآت تختبر التجربة الإنسانية، وفي حالة بركان آيسلندا الذي عطل حركة الرحلات الجوية من وإلى الدول الأوروبية أكبر تكتل اقتصادي في العالم بدأت الحسابات حول تأثيراته على النمو المأمول بعد صدمة الانهيار المالي والركود وحركة التجارة من وإلى القارة، وصناعة السياحة العالمية فيما لو استمر نشاط هذا البركان وطوفان الرماد البركاني في أجواء القارة لفترة طول.

والبشرية ليست جديدة على الكوارث الطبيعية بأحجام كبيرة أو غير مسبوقة مثل الزلازل والتسونامي والفيضانات بما تسببه من خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات. لكن في حالة بركان آيسلندا الذي لم يؤدِّ إلى ضحايا تقريبا فإن المتضرر الأكبر هو فكرة العولمة والاعتماد المتبادل التي أصبحت حقيقة وقاعدة أساسية بنى عليها العالم علاقاته واقتصاده ودبلوماسيته في العقود الأخيرة.

ففي القرن الحادي والعشرين أصبح العالم أكثر اعتمادا بعضه على بعض سواء في التجارة أو وسائل الاتصال والمعلومات وانتقال رؤوس الأموال، ومعها حركة السفر بالطيران التي أصبحت جزءا أساسيا من حركة النشاط البشري.

وهناك الكثير من نقاد العولمة الذي يرون فيها شرا وضررا لأسباب آيديولوجية، لكنهم في الحقيقة لا يستطيعون العيش دونها، فالافتقار إلى كل هذه الوسائل والأدوات يعيد العالم إلى القرن التاسع عشر، ويخفض حجم النشاط الاقتصادي بشكل كبير بما يعنيه ذلك من خسارة وظائف وسبل رفاهية ودخول. كما أنهم ينكرون حقيقة أن الاعتماد المتبادل كان قائما منذ بداية التاريخ بشكل أو آخر من خلال التجار والقوافل التي كانت تعبر طريق الحرير أو رحلات السفن بين الشرق والغرب.

وقراءة التقارير المترافقة مع تعطل الرحلات الجوية وقصص الركاب العالقين تظهر مدى الاعتماد المتبادل في عالم اليوم، فالعمال الذين يقدرون بالألوف في كينيا والذين يغلفون خضراوات وفواكه طازجة لنقلها إلى أوروبا يوميا بالطائرات لتستقر في رفوف المتاجر للمستهلكين يدعون إلى اختفاء الغمامة البركانية حتى لا يخسروا وظائفهم بينما يخسر اقتصاد بلادهم ملايين الدولارات يوميا جراء ذلك، وفي المنتجعات السياحية في بلدان الشرق الأوسط التي تعتمد اقتصاداتها على صناعة السياحة التي يعتمد عليها ملايين في أرزاقهم يحسبون الأيام لعودة حركة الطيران إلى طبيعتها واستئناف وصول الأفواج السياحية. ونفس الحال ينطبق على بلدان آسيا التي تصدّر بعض منتجاتها الرفيعة إلى أسواق أوروبا بالطائرات أو العكس، ببساطة إنه عالم الاعتماد المتبادل ولا إمكانية للعودة عن ذلك.