أزمة على النيل

TT

لأن الماء شريان الحياة، لم يكن غريبا أن نسمع تصريح الدكتور مفيد شهاب وزير الشؤون القانونية والمجالس النيابية في مصر الذي قال فيه إن «أمن مصر المائي وحقوقها التاريخية في مياه النيل مسألة حياة أو موت لا يمكن التفريط فيها». ومناسبة هذا الكلام كانت فشل مفاوضات دول حوض النيل، خلال الاجتماع الذي عقد في شرم الشيخ الأسبوع الماضي، في التوصل إلى اتفاق جامع بينها، ورفض دول المنبع (إثيوبيا وكينيا وبوروندي ورواندا وتنزانيا وأوغندا والكونغو الديمقراطية) للطرح المصري - السوداني، بل وقيامها بتوقيع اتفاق إطاري بينها غير آبهة باعتراضات الخرطوم والقاهرة.

هل الأزمة خطيرة بالفعل أم أن هناك مبالغة في التصريحات؟

الواقع أن الأزمة بالغة الخطورة وتتجه إلى المزيد من التعقيد وربما التصعيد أيضا. فدول المنبع تتكتل منذ فترة مطالبة بتعديل الاتفاقيات السابقة المنظمة لتقسيم المياه بين دول حوض النيل، على أساس أن هذه الاتفاقيات وقعت في عهود الاستعمار، وبالتالي فإنها غير ملزمة لها، وأن ظروف واحتياجات الدول تغيرت وزادت حاجتها للموارد الطبيعية وخصوصا المياه، وبالتالي فإن هناك حاجة لتقسيم مياه النيل بالتساوي. في الجانب المقابل يؤيد السودان ومصر الالتزام بالحقوق التاريخية ويقترحان إنشاء مفوضية لدول حوض النيل العشر (دول المنبع السبع ودولتا المصب إضافة إلى إريتريا العضو المراقب في منظمة دول حوض النيل).

كان الهدف من اجتماع شرم الشيخ تجاوز الخلافات والتوصل إلى اتفاق بين دول الحوض، إلا أن دول المنبع صعدت الخلاف بتوقيعها منفردة على اتفاق إطاري يدخل حيز التنفيذ الشهر المقبل، ولا يعترف بالحقوق أو الحصص التاريخية، ولا بقاعدة الإجماع في اتخاذ القرارات، ولا بشرط الموافقة المسبقة على أي مشاريع مائية في أي دولة من دول حوض النيل، وهي المطالب المضمنة في الطرح المصري - السوداني. وردت القاهرة والخرطوم على ذلك بإعلانهما أن توقيع الاتفاق الإطاري غير ملزم لهما ويخالف القانون الدولي، باعتبار أن هناك اتفاقيات معترفا بها دوليا تنظم تقسيم مياه أطول نهر في العالم.

فشل الاجتماع لم يكن في الواقع مفاجئا لأن الأزمة ظلت تتفاعل منذ فترة تحت السطح. فعدد من مسؤولي دول المنبع دأبوا منذ فترة على إطلاق تصريحات تطالب بإعادة النظر في اتفاقيات مياه النيل، وذهب بعضهم إلى حد اتهام مصر بأنها تريد السيطرة على مياه النيل بتمسكها بمسألة الحقوق التاريخية. من جانبها كانت العديد من الدوائر في القاهرة ترى أن لإسرائيل يدا في الأمر وأن هناك تحريضا لبعض دول المنبع لتحريك ملف المياه التي تدرجها مصر في خانة الأمن القومي. ورغم أنه ليس خافيا على الكثيرين أن إسرائيل دخلت في مشاريع زراعية في عدد من الدول الأفريقية، فإن المسألة أبعد من ذلك.

ففي السابق، وتحديدا في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي كانت أفريقيا تشكل عمقا حقيقيا للعالم العربي، وكان التعاون يأخذ أشكالا عدة، إلى درجة أن معظم الدول الأفريقية قاطعت إسرائيل تضامنا مع العرب. لكن غرق العالم العربي في بحر مشاكله وخلافاته، وتراجع الاهتمام بأفريقيا جنوب الصحراء، جعل الكثير من دول القارة تعيد ترتيب أولوياتها فأعاد الكثير منها علاقاته بإسرائيل التي نشطت لاختراق القارة السمراء بالسياسة وبالدعم بالسلاح وبالوفود والمشاريع الزراعية.

رغم ذلك فإن الأزمة المرشحة للتفاقم لا يمكن التعامل معها، باعتبارها فقط «مؤامرة» إسرائيلية. فهناك حقائق جديدة لا بد من التعامل معها وأخذها في الاعتبار، لكي تتمكن دول المصب من التوصل إلى اتفاقات مع دول المنبع بما يعود بالفائدة على الجميع ويجنب المنطقة حرب مياه. فعلى سبيل المثال، تشير إحصائيات وتقارير الأمم المتحدة إلى أن معدلات ارتفاع عدد السكان في إثيوبيا، وهي من أهم دول المنبع، تعتبر من الأعلى في العالم وأن عدد سكانها سيتجاوز عدد سكان مصر بحلول عام 2015 لتصبح ثاني أكبر دولة في أفريقيا من ناحية التعداد السكاني بعد نيجيريا. واستنادا إلى تقرير الأمم المتحدة للسكان فإن تعداد سكان الكونغو الديمقراطية، وهي دولة أخرى من دول المنبع، سيصبح 110 ملايين نسمة بحلول عام 2025 متجاوزا مصر التي سيبلغ عدد سكانها حينها نحو 99 مليونا بينما سيكون عدد سكان إثيوبيا 113 مليونا.

هذه الأرقام تعني أن هناك حاجة متزايدة للمياه وللموارد الزراعية في المستقبل، وأن الخلافات بين دول حوض النيل قد تتزايد تبعا لذلك. كما أن هناك عاملا آخر قد يطرأ على معادلة مياه النيل وهو انفصال جنوب السودان المحتمل، لأن «دولة الجنوب» ستطالب بحصتها من المياه، مما سينعكس على التوزيع الحالي.

لقد حذرت تقارير ودراسات عديدة من حروب المياه في المستقبل، ونهر النيل مرشح لنزاعات محتملة، ما لم تتم معالجة المشاكل عبر توفير مزيد من المياه (المستنقعات والسدود العشبية تؤدي لتبخر وتسرب كميات هائلة من المياه)، ومن خلال المشاريع الزراعية المشتركة والتعاون في مجالات الطاقة والأمن الغذائي.