معنى «قمة الأمن النووي»؟!

TT

قصة «عودة باراك أوباما» لا تزال معنا، وعقد مؤتمر دولي على مستوى القمة عن «الأمن النووي» واحدة من مؤشراتها، وفضلا عن أهمية المعاني المباشرة للاجتماع، فإن وضعه على قائمة التغيير في العلاقات الدولية يعطينا دلالات مثيرة. والمسألة ببساطة لها ثلاثة أوجه: الأول أن باراك أوباما يعود إلى الساحة الدولية، والداخلية الأميركية، بزخم كبير كان قد فقده خلال معركة الرعاية الصحية، ومعارك أخرى في الشرق الأوسط وخارجه في أفغانستان وباكستان ومع الصين وروسيا. والثاني أن القضية النووية باتت حرجة، وبعد أن كانت لعقود طويلة معضلة في التنافس بين دول لها وحدها الحق الشرعي في امتلاك السلاح أيا كان نوعه تقليديا أو غير تقليدي، فإن المسألة كلها تمت خصخصتها ليكون السلاح في يد لاعبين دوليين من جماعات وأفراد عابرين للحدود والقارات. وإذا كانت دول العالم معروفة الأسماء والعدد والمكان الجغرافي بحيث يسهل التعرف عليها ومراقبتها إذا لزم الأمر، فإن الأفراد والجماعات بلا حصر، ولا علم، ولا مكان. والثالث أن القمة كانت تجمعا حول خطر مشترك، أو هكذا نجح باراك أوباما في صياغته، فلم تعد المسألة منع انتشار الأسلحة النووية بين الدول كما هو الحال في الاتفاقية العالمية الموقعة عام 1968، وإنما منع وقوعها في يد أفراد أو جماعات خطرة.

ولكن الاشتراك في هدف واحد لا يحدث إلا إذا كانت هناك أخطار مشتركة بالفعل، وإذا كان لدى روسيا أي نوع من التردد فإن الحال في الشيشان، والمناطق الإسلامية الروسية، وحتى في قلب الدولة نفسها مع الحادث الإرهابي في نفق مترو موسكو حسم المسألة كلها. وفي الصين تطورت الأمور إلى غير رجعة مع جماعات أصولية إسلامية متنوعة، ومع تنامي أخطار طالبان في أفغانستان المجاورة بينما القلق في باكستان مؤرق، فإن التلاقي مع آخرين لديهم نفس الوساوس أصبح حتميا. نتيجة الوجوه الثلاثة ظهر تحالف أمني نووي، يؤمن الأسلحة النووية من ناحية، ويقف أمام أصولها الأصولية لدى دول مثل إيران أو جماعات تحت مسميات شتى من ناحية أخرى.

جذور ذلك كله تعود إلى موجة من الاهتمام الدولي الملحوظ بقضية «الأمن النووي» بدت واضحة في الفترة الأخيرة. فقد شهد العالم في شهر أبريل (نيسان) الحالي وحده ثلاثة أحداث هامة ترتبط بهذه القضية سوف يضاف إليها حدث رابع في شهر مايو (أيار) المقبل، كلها تؤكد أن «الأمن النووي» سوف يحظى بأولوية قصوى على الساحة الدولية. الحدث الأول، هو إعلان الولايات المتحدة الأميركية عن استراتيجيتها النووية الجديدة أو ما يعرف بـ«وثيقة مراجعة الموقف النووي» في 6 أبريل الحالي، وهي المرة الثالثة التي تراجع فيها واشنطن استراتيجيتها النووية منذ عهد الحرب الباردة وكان آخرها عام 2002 بعد شهور قليلة من وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). والملاحظ في الاستراتيجية الجديدة أنها تفرض حدودا ضيقة لاستخدام السلاح النووي، حيث تحصرها في ما سمته بـ«الحالات القصوى» التي تتمثل في تعرض المصالح العليا والأمن القومي الأميركي لخطر داهم. وقد أشارت هذه الاستراتيجية إلى أن تنظيم القاعدة والمتطرفين المرتبطين به يسعون للحصول على السلاح النووي وأنه تتوفر من الأسباب ما يدعم إمكانية استخدام هذه الأسلحة إذا ما نجحوا في تحقيق ذلك. ومن هنا تدعو الاستراتيجية إلى الاهتمام بالسعي إلى منع المتطرفين من الحصول على الإمكانيات اللازمة للحصول على السلاح النووي. فيما يأتي الخطر الآخر من دول مثل إيران التي وقعت على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لكنها متهمة بالسعي لتطوير السلاح النووي، وكوريا الشمالية التي خرجت من المعاهدة عام 2003 وأجرت تجربتين نوويتين.

وتتضمن الاستراتيجية الجديدة خمسة أهداف رئيسية هي: منع انتشار الأسلحة النووية والإرهاب النووي، وتقليص دور الأسلحة النووية الأميركية في استراتيجية الأمن الوطني، والإبقاء على الردع الاستراتيجي والاستقرار مع مستويات قوة نووية منخفضة، وتقوية الردع الإقليمي وطمأنة حلفاء الولايات المتحدة وشركائها، مع الإبقاء على ترسانة نووية آمنة وفعالة. كما تؤكد التخلي عن تطوير أسلحة نووية جديدة. وتمنع استخدام الأسلحة النووية ضد الدول غير النووية التي تلتزم بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. بالإضافة إلى ذلك، فإن ثمة مضامين عدة تطرحها هذه الاستراتيجية الجديدة: أولها، أنها مختلفة إلى حد ما عن الاستراتيجية النووية التي اتبعتها الإدارة الجمهورية السابقة التي اعتمدت على توسيع نطاق وحدود استخدام السلاح النووي، بحجة التهديدات الملحة التي تواجه الأمن القومي الأميركي، خصوصا بعد وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. وثانيها، أنها تهدف إلى تقليص حدة الاهتمام الدولي بالحصول على الأسلحة النووية، لأنها تعهدت بعدم استخدامها ضد الدول الموقعة على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. وثالثها، أنها توجه رسائل طمأنة إلى حلفاء الولايات المتحدة، خصوصا غير النوويين، بأن قوة الردع النووية الأميركية باقية ومستمرة، ومن ثم فإنهم لا يحتاجون إلى قوة نووية خاصة بهم. ورابعها، أن هذه الاستراتيجية اتسمت بنوع من الغموض المتعمد حول مسألة تحديث الترسانة النووية، حيث تشير إلى ضرورة تطوير البنية التحتية والاحتفاظ بإمكانية تبديل الرؤوس النووية في حالة ما إذا رأى الرئيس أن الظروف تدعو إلى ذلك. وخامسها، أن الإدارة الأميركية حرصت على سد الفراغ النووي الناتج عن الاستراتيجية الجديدة من خلال العمل على تطوير سلاح جديد يعرف بـ«الضربة العالمية السريعة» Prompt Global Strike، ويتمثل في صواريخ تحمل رؤوسا تقليدية باستطاعتها الوصول إلى أي مكان في العالم في أقل من ساعة واحدة.

الحدث الثاني، جاء بعد 48 ساعة فقط من الحدث الأول، وتمثل في توقيع كل من الرئيس الأميركي باراك أوباما والرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف في براغ على معاهدة خفض الترسانة النووية للبلدين في 8 أبريل الحالي. وتتسم المعاهدة الجديدة بالكثير من الخصائص: أولها، أنها تخلف معاهدة «ستارت 1» التي وقعت عام 1991، وانتهى مفعول سريانها في 5 ديسمبر (كانون الأول) 2009. وثانيها، أنها سوف تقلص عدد الرؤوس الحربية النووية العاملة التي تنشرها روسيا والولايات المتحدة إلى 1550، أي أقل بمقدار الثلثين عن العدد الذي نصت عليه معاهدة «ستارت 1». وثالثها، أنها في مقابل ذلك لا تخفض الأسلحة النووية التكتيكية الأقصر مدى التي تملكها الدولتان. ورابعها، أنها تسعى إلى تحقيق الهدف ذاته الذي سعت إليه الاستراتيجية النووية الأميركية الجديدة، وهو إقناع دول العالم بعدم جدوى السعي للحصول على الأسلحة النووية.

الحدث الثالث، هو انعقاد قمة الأمن النووي في الولايات المتحدة في 13 أبريل الحالي بحضور 46 دولة، التي أكدت أهمية مكافحة الإرهاب النووي، وضرورة تأمين المواد النووية في غضون أربع سنوات لإحباط أي خطط لجماعات متطرفة للحصول عليها واستخدامها لتهديد الأمن والسلم الدوليين. وحددت الدول المشاركة إجراءات لمكافحة الاتجار النووي منها تبادل المعلومات، والخبرات المتعلقة بعمليات الرصد والطب الشرعي، وتطبيق القانون. لكن الأهم من ذلك هو اتجاه الكثير من هذه الدول إلى اتخاذ إجراءات فورية لتفعيل مسألة تأمين المواد النووية. فقد أعلنت أوكرانيا والمكسيك وتشيلي وكندا عن نيتها التخلص من اليورانيوم عالي التخصيب.

أما الحدث الرابع، فهو اقتراب موعد انعقاد المؤتمر الدولي لمراجعة معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية بنيويورك في مايو المقبل بمشاركة الموقعين عليها وعددهم 189 دولة، وهو المؤتمر الذي يرجح أن يشهد الكثير من الخلافات بين الدول الموقعة على المعاهدة، خصوصا الدول غير النووية التي ترفض المساعي الغربية لفرض مزيد من القيود على امتلاك الأسلحة النووية، والدول النووية التي تسعى إلى تفعيل المعاهدة بشكل يحول دون نجاح الكثير من دول العالم (قدرتها أجهزة الاستخبارات الأميركية بـ17 دولة) في الحصول على التقنيات اللازمة لامتلاك قنبلة نووية. ومع ذلك، فإن الأحداث الثلاثة الأولى يمكن أن تنتج ثمارا إيجابية خلال المؤتمر، بإقناع الدول غير النووية بعدم جدوى السعي لامتلاك السلاح النووي، وتعزيز ثقتها في الترتيبات الدولية الجديدة.