الكره العربي للعمل

TT

يشبه غازي القصيبي (اللهم لطّف به عنايتك ومكّن عناية الطب) الفلسفة الهندية، فهي لا تقبل المتناقضات فحسب، بل تُوائم في ما بينها أيضا. ولم نعرف في العالم العربي شاعرا في شغف ومشاعر غازي القصيبي، ما إن يعطى منصبا إداريا حتى يصبح من الأولين. وقد بيع من كتابه «مذكرات في الإدارة» نحو 400 ألف نسخة، وهو رقم لا يبلغه شعراء العرب، مجتمعين، في عقد أو عقدين، وربما أكثر، بل ربما أكثر بكثير.

ولم يتسلم غازي القصيبي منصبا إداريا إلا وكرس نفسه له. وعندما أصبح وزيرا للعمل قلت في نفسي: ماذا جاءت هذه الهامة الأدبية تفعل في دنيا الشغل والبطالة؟ فماذا فعل القصيبي؟ ارتدى ثياب بائعي الهامبورغر ووقف يبيع المارة. أراد أن يؤكد للعقلية العربية، وليس للعقلية السعودية وحدها، أن العمل ليس عيبا. البطالة المقصودة هي العيب، والكسل هو العار، والسوء هو ترك الأب أو الشقيق الأكبر يعمل وحيدا ويعيل وحده.

عندما وقف غازي القصيبي خلف «الكاونتر» وخلفه نصف قرن من العلوم والخبرة والآداب، أراد أن يلغي من رؤوس الأجيال ما زرعه الأقدمون فيها، من أن المهنة هي الامتهان، هي العيب. أخبرت الدكتور القصيبي مرة أن في لبنان يسمّون الشغالة «صانعة» والنادل «صانعا»، أي أن الصناعة التي هي مجد أميركا وبريطانيا وألمانيا واليابان، هي في قرى لبنان البائسة والمعوزة مهنة لا يريدها أحد. وعندما يعير بعض الفقراء الكسالى والاتكاليين بعضا يقولون إن فلانا «صانع» لدى بيت فلان.

غيّر القصيبي بعقله وقلبه الكثير من الأنماط السقيمة وعلامات التخلص. لم يرتقِ بالشعر فقط، بل بالعمل، وارتقى بالصداقات والمجالس، وحوّل كل مجلس إلى لقاء مع التاريخ والأدب ودائرة المعارف. اللهم عنايتك.