السودان والنيل والأمن الاستراتيجي المصري

TT

عندما كانت أذهاننا منصرفة لتتبع الانتخابات السودانية وآثارها على وحدة السودان؛ وقع حدث أشد خطورة يتعلق بوادي النيل وحوض النيل، والدول المشاركة بين منابع النيل وحوضه. فقد اجتمعت تلك الدول في شرم الشيخ بدعوة من مصر(ثماني دول + مصر والسودان)، لبحث ماذا يمكن عمله للتوفيق بين دولتي الحوض (مصر والسودان) ودول المنابع، من ضمن اتفاق الإطار الذي نظمته اتفاقية دولية بإشراف بريطانيا العظمى عام 1929. وكانت الاتفاقية المذكورة قد نظمت العلاقة على أساس ما تملكه كل دولة أو ناحية من أراض زراعية. فحصلت مصر (على أساس 6 ملايين فدان من الأرض الزراعية) على 55 مليار متر مكعب، والسودان على 28 مليار متر، وتوزعت باقي المياه على الدول الأخرى وفي طليعتها إثيوبيا. لكن منذ الستينات من القرن الماضي، تصاعدت الشكوى من جانب الدول القديمة والجديدة بالقارة من هذا الإجحاف. وقد عملت مصر أيام الملكية والجمهورية بأسلوبين لتأمين مصادر حياتها من مياه النيل: الإصرار على اتفاقية الإطار، باعتبارها اتفاقية دولية نافذة، والعمل في الوقت نفسه على إقامة علاقات طيبة وتعاونية مع دول منابع النيل، وسائر الدول الأفريقية. فقد ساعدت مصر في تحرير دول القارة من الاستعمار، وقدمت لها مساعدات كبيرة للتنمية وتحقيق الاستقرار، ومن ضمن ذلك في السنوات الأخيرة اتفاقيات كثيرة مع إثيوبيا. إنما وباختصار؛ فإن السنوات الثلاثين الأخيرة، شهدت انكماشا وترديا في العلاقات أو جمودا بين مصر من جهة، وكل دول النيل الأخرى - بما في ذلك السودان - من جهة ثانية. ولذلك فإن اجتماع شرم الشيخ الأخير انتهى إلى وقوف مصر والسودان معا في جانب، وسائر دول النيل في الجانب الآخر. فقد كانت مصر (ومعها السودان) مستعدة لقبول بعض التعديلات في الاتفاقية بما يراعي حصص الدول الجديدة ومشروعاتها، كما أنها كانت مستعدة لزيادة المساعدات والمشروعات التنموية، لكن الأفارقة الآخرين أصروا - وإن بدرجات متفاوتة - على نقض اتفاقية الإطار، وإعادة توزيع الحصص على أساسين: نسبة مساهمة كل دولة في مياه النيل، وتطورات الأراضي والموارد والحاجة للمياه في السنوات الخمسين الأخيرة. وهكذا انفض اجتماع شرم الشيخ على خلاف كبير، دونما أي اتفاق على موعد لتفاوض مستجد وأكثر رحابة من سائر الأطراف.

ظل نهر النيل شغل مصر الشاغل منذ عدة آلاف من السنين. وما انتظر المصريون قولة هيرودوت في القرن الثالث للميلاد إن مصر هبة النيل، لكي يفكروا في وسائل وضمانات تأمين الموارد المائية باعتبارها ضرورة وجود وحياة. ولذلك، ومنذ أقدم العصور طمحوا دائما للسيطرة على مجاري النيل حتى المنابع. وكان هذا «الوعي» يظهر جليا في الحقب التي تكون فيها مصر مركز إمبراطورية، أو في الأزمنة التي يتجدد فيها الطموح للاستقلال عن المركز، وتشكيل كيان كبير ومنساح. على أن اهتمام المصريين بالنيل ما كان أو ما ظل خارجيا؛ بمعنى الهم بكيفية الحيلولة دون بروز عوائق لاستمرار تدفقه إلى الداخل المصري؛ بل إنه أثر منذ البداية في طبيعة الدولة والكيان وضرورتهما التنظيمية الداخلية. وقد صارت معروفة الآن نظرية فيتفوغل (1924) الهيدرولية، التي كتب عنها كتابه الشهير بعنوان «الاستبداد الشرقي». فالنواحي الشاسعة بآسيا أساسا، لكن أيضا بأفريقيا (النيل والنيجر)، التي لا تقوم فيها الحياة الإنسانية إلا على ضفاف الأنهر الطويلة التي تخترقها، يكون من الضروري لها أن تقوم فيها سلطة مركزية قوية لإقامة نظام للري وشبكات لتوزيع المياه، وتنظيف المجاري الرئيسية والفرعية (الترع)، وإلزام الناس بذلك التنظيم الدقيق عن طريق الحزم والصرامة والعناية وعدالة التوزيع وتطوير الأساليب. ولذلك فقد قامت كيانات قديمة جدا في مصر وبلاد ما بين النهرين وبعض نواحي الصين والأقاليم التي يمر بها نهرا سيحون وجيحون. لكننا لا نعرف ناحية في العالم القديم أو الحديث انتظم فيها علم لنهر من الأنهار مثل مصر، كما لا نعرف جهة في العالم انتظمت فيها سلطة مركزية قوية ومستمرة عبر عشرات القرون مثل مصر أيضا. وعلى أي حال، وكما سبق القول فإن مصر في عصور الإمبراطوريات، كما في أزمنة الوعي الاستقلالي ضمن الإمبراطوريات (مثال حالها أيام الرومان وأيام الإسلام)، كانت ترجع إلى الطموح القديم أو الضرورات الاستراتيجية، فيما وراء النوبة والسودان من جهة، وفيما وراء سيناء باتجاه بلاد الشام من جهة ثانية. فالتوجه الأفريقي البري والنهري أساسه النيل ومحيطه. والتوجه المتوسطي البري والبحري أساسه الأمن والتجربة التاريخية، لأنها تعرضت لعشرات الغزوات من الجهات المتوسطية عبر العصور (عبر سيناء وعبر الإسكندرية) وكان أستاذنا الدكتور جمال حمدان صاحب كتاب «شخصية مصر» قد ركز على ما يميز هذه الحضارة العظيمة، والذي أراه أن ما ذكرته عن مصر للجهات الثلاث (الدولة المركزية، والتوجه الأفريقي، والتوجه المتوسطي)؛ كل ذلك ليس خصائص متفردة، بل نواتج ونتائج للموقع الطبيعي، والواقع الاستراتيجي.

ولكي لا نظل في التاريخ والاستراتيجيا؛ مع أنه لا يمكن الخروج منهما في الواقع، أعود إلى التجربة المصرية الحديثة والمعاصرة مع النيل وموقع مصر ودورها. فمع محمد علي (1805 - 1849) عادت طموحات مصر الاستقلالية، وعاد معها الوعي بضرورات إعادة ترتيب موقعها وأمنها الاستراتيجي. فمحمد علي ما تمدد باتجاه الشام وحسب؛ بل تمدد باتجاه السودان ودواخل أفريقيا وأعالي النيل أيضا. وقد توقف أو تراجع هذا الوعي أيام عباس الأول وسعيد، لكنه عاد إلى أوجه أيام الخديوي إسماعيل، الذي انصرف عن بلاد الشام لعدم القدرة على ذلك، وركز على تحديث مصر، وعلى اختراق أفريقيا. وكنت على مشارف مؤتمر شرم الشيخ العتيد، قد عدت إلى كتابين عن الموضوع هما «النيل الأزرق» تأليف آلان مورهيد (النيل الأزرق يأتي من دواخل القارة، ويلتقي في السودان بالنيل الأبيض الآتي من إثيوبيا)، و«جند الله - إمبراطورية الإسلام في حوض النيل» تأليف دومنيك غرين (ترجمته دار الكتاب العربي في بيروت إلى العربية عام 2009 بعنوان «إمبراطورية الإسلام في حوض النيل»). ومن الكتابين يتضح أن السودان كما نعرفه اليوم ما كان متصورا من دون الدولة المصرية وامتداداتها الحديثة. ولأن 80% من مياه النيل تلتقي في السودان وتتدفق منه إلى مصر؛ فإنه كان حساسا جدا ولا يزال بالنسبة لها. وقد بذلت بريطانيا جهودا جبارة لفصل السودان عن مصر بعد استعمارها لغالبية القارة الأفريقية ومن ضمنها مصر. وما نجحت تماما في ذلك إلا بعد قيام ثورة يوليو (تموز) 1952، واضطراب ضباط الثورة الشباب بين أعباء الاستمرار في إلحاق السودان الذي قامت فيه حركة استقلالية، وضرورة إخراج البريطانيين من مصر؛ في تنازلات متبادلة. ومنذ ذلك الحين ما استقامت علاقة مصر بالسودان تماما، لكنها ما اضطربت تماما أيضا إلا في عهد حكومة الترابي والبشير ومحاولة إقامة سودان إسلامي بعد عام 1989. وكما سبق القول؛ فإن مصر بعد ثورة يوليو بنت سياسة أفريقية قائمة على تزعم حركة الكفاح ضد الاستعمار، وإقامة منظمة الوحدة الأفريقية، وقائمة أيضا على إقامة علاقات تعاون وتنمية مع سائر دول القارة وبخاصة دول منابع النيل والقرن الأفريقي. ويقول الخبراء المصريون إنه حتى في عهد الرئيس السادات الذي بدأ انكماشا من نوع ما تجاه المشرق العربي والخليج ظلت لديه عمليا وزارتان للخارجية: وزارة الخارجية العادية، ونائب وزير الخارجية للشؤون الأفريقية.

وعندما نقول إن انكماشا مصريا عاما حدث في العقود الثلاثة الأخيرة؛ فإن هذا لا يعني أنه لم تكن هناك جهود لشيء من الانتظام في العلاقات مع دول منابع النيل وحوضه ودول القرن الأفريقي. فعلاقات مصر بإثيوبيا تحسنت، وكانت هناك مبادرات تعاون معها من الناحيتين السياسية والتنموية. وبعد عام 2000 عادت علاقات مصر للتحسن مع السودان، وحاولت مصر مساعدة حكومة البشير في التوسط مع الجنوب وفي دارفور. ويقف البلدان اليوم معا في مسألة النيل وحوضه. على أن اجتماع شرم الشيخ الأخير وما انتهى إليه من خلاف لا يمكن إعادته إلى «الدسائس الصهيونية» كما قالت الصحف المصرية. بل إن بين أسبابه العميقة تراجع دور مصر ونفوذها في القارة، وتهدد موقع مصر الأفريقي والمتوسطي بالأخطار. فالانتخابات السودانية الأخيرة، هي مقدمة لتفكك السودان إلى جنوب وشمال أولا، ثم لا أحد يدري ماذا يحصل بعد ذلك. والنيل الأزرق يمر بجنوب السودان، الذي إذا قامت فيه دولة جديدة فإنها تريد حصتها منه. وهذا فضلا على النزاعات التي ستنشب على الحدود بين شمال السودان وجنوبه.

ثم من جهة سيناء والمتوسط وبلاد الشام تقوم إلى جانب إسرائيل وعلى حدود مصر اليوم دويلة حماس في غزة، التي كانت على مدى التاريخ تابعة لمصر، وأحد حصونها في منطقة الممرات والغزاة تلك. والطريف أن هذه المجموعة الحماسية ذات العنوان الإسلامي الكبير، تعمد لمحاولة بناء «وطنية فلسطينية محلية» في مواجهة الدولتين الإسرائيلية والمصرية معا. وهذه جميعا مسائل لا تتصل بالصهيونية وقرنق وإسلاميات حماس والبشير، بل لها علاقة وثيقة بالسياسات المصرية والإقليمية والدولية في العقود الثلاثة الأخيرة. لقد بدأنا نستوعب بالكاد نتائج هجمات بوش على العراق، فهل هناك تبصر استراتيجي مصري في كيفية استيعاب آثار تفكك السودان على الأمن الاستراتيجي للبلاد والعباد؟!