بين النضج العلمي والمراهقة السياسية

TT

أشغلنا ملف إيران النووي. منذ عام 2002 حينما فضحت منظمة مجاهدي خلق المشروع الإيراني النووي، انشغل المجتمع الدولي حتى عن القضية الدولية الأولى في العالم منذ ستين عاما، وهي القضية الفلسطينية، بمحاولة قياس عمر المشروع الإيراني، لوأده، أو على الأقل التحكم في نموه. وفي أشد الأوقات حساسية وأهمية كالتي نعيشها اليوم، والتي يحلو للمتشائمين تسميتها فترة انهيار عملية السلام، ويسميها المتفائلون عنق الزجاجة لإقامة دولة فلسطينية، تنطلق رحلات مكوكية من الغرب الأقصى إلى الشرق الأقصى لتحصيل أكبر دعم ممكن لفرض عقوبات على إيران. جهود كان الأولى أن توضع على طاولة مفاوضات الحل النهائي لأهم قضية عربية إسلامية، خاصة في وقت ذهبي تتحدث فيه الإدارة الأميركية بأعلى لهجة لها في الإصرار على تمهيد السبل من العراقيل التي يزرعها الموقف الإسرائيلي.

في وجود إدارة أميركية تعمل بجدية على ما تريد، وأجواء عربية لم تعرف مثل هذا الاستقرار في علاقاتها العربية العربية، والعربية الدولية منذ اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري عام 2004، وفي ظل تخبطات السياسة الإسرائيلية التي تزداد عنجهية وتمردا على الأعراف الدولية، كان بالإمكان أن تشكل هذه الظروف في مجملها عوامل ضغط تجاه الحل المنشود، خاصة مع تراجع الدور الذي كان يلعبه أفراد مدرسة المشاغبين من الميليشيات المسلحة في غزة وجنوب لبنان.

لكن ما حصل أن استولى ملف إيران النووي على معظم اهتمام المجتمع الدولي، الذي أقلقه موقف الحكومة في طهران التي تصعد من لهجة التحدي مع كل وقفة لمحمود أحمدي نجاد أمام ميكروفون، كما اصطبغت فكرة استخدام الطاقة الذرية بصبغة التحريم والتجريم والشبهة كونها كالسكين الحادة التي يفترض ألا يحملها السفيه أو الطفل.

الطاقة الذرية تقنية متقدمة عملاقة، ورصد علمي كبير وواعد لا نستطيع أن نحصر مزايا استخداماته المستقبلية علميا واقتصاديا وبيئيا، لكن هذه السكين التي قد تقطع حبة برتقالة قد تطعن في مقتل، مما يفرض موقفا سياسيا عالي النضج من الحكومات في التعامل معها، وأهم سلوكيات هذا النضج هو الوضوح. الوضوح من خلال إعلان تبني الدولة مشروعا لاستخدام الطاقة الذرية في الأغراض السلمية، وطرح المشروع بتفصيلاته الكبيرة والدقيقة تحت الأضواء ومن خلال مؤسسات بحثية وعلمية معروفة، لأن الهدف السلمي لا يُخبأ تحت الأرض، ولا تغلق عليه الأبواب، ولا تدور حوله الشبهات. هناك حكومات تحرج نفسها وشعوبها، وتضعف قدراتهم ومقدراتهم من أجل استعراض بهلواني انطفأت إثارته، ومكاسب لا تحمل قيمة اقتصادية أو سياسية، والأسوأ أن تطال هذه المراهقات السياسية قضايا المنطقة وتأتي على حساب مصالحها وتستنزف مواردها وجهودها.

في الضفة الأخرى، انطلقت دول عربية كالسعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة إلى اتخاذ قرارات جادة في سبيل استخدام الطاقة الذرية في مجالات حيوية مهمة، كتوليد الكهرباء وإنتاج النظائر المشعة للأغراض الطبية والصناعية، مستفيدة مما يقدمه العلم في تنمية مجتمعاتها تنمية مستدامة، تاركة خلف ظهرها جدالات عقيمة حول من يحق له ومن لا يحق له أن يشرب ماء محلى باستخدام هذه التقنية. لذلك فإنشاء مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة هو فتح علمي واقتصادي جديد يُحسب للسعودية، في ظل التوجه الحكومي لتطويع المعرفة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وتوسيع دائرة الأدوات الكفيلة بتلبية احتياجات الدولة التنموية الآنية والمستقبلية، وهو كذلك يعكس سلوك الشخصية السعودية داخل الجماعة الدولية، من حيث سلامة النية ووضوح الأهداف واتخاذ الخط المباشر لتحقيق ذلك.

تتوق كل شعوب العالم إلى العيش بسلام، والعمل على تحقيق أمنها الوطني واستقرارها الاقتصادي بكل الوسائل المتاحة، لكن بعض الحكومات قد تختار، غير مكرهة، العيش على خط النار، معرضة أمن مواطنيها للخطر، ومستقبلهم للتهديد الداخلي أو الخارجي، أو تجعلهم يستجدون رحمة الدول الأخرى لفتح حدودها لهم لاجئين وهاربين من البطش والترويع، كما تشغل دول المنطقة بفك نزاعات أو القلق من حدوث صدامات لا دخل لها بها إلا بحكم الجغرافيا.

* أكاديمية سعودية - جامعة الملك سعود

[email protected]