على بلد المحبوب ودّيني

TT

بعد رحلة مضنية من لوس أنجليس إلى باريس استمرت ما يقارب من 11 ساعة من دون توقف، اضطرب بعدها نومي ومزاجي، وما أن تعدل بعد ثلاثة أيام حتى عزمت على الرحيل إلى دياري، غير أنني ما كدت أصل إلى مطار «شارل ديغول» وأنا أردد أغنية «على بلد المحبوب وديني» حتى فوجئت أنهم قرروا أن يلغوا جميع الرحلات المغادرة والقادمة إليه بسبب التلوث البركاني الذي شمل مناطق واسعة من أجواء أوروبا.

لم يكن لدي مشكلة مع «النحس» فقد عرفته وتعايشت معه طوال عمري، ونما بيننا ما يشبه الألفة إلى درجة أنه إذا مر أكثر من شهر واحد واستمرت حياتي سلسة ولم تعترِها أي مفاجأة مزعجة يصيبني شيء من القلق وأشعر أن الأمور غير طبيعية وأبدأ بالارتباك.

عموما استسلمت لأنه لم يكن بمقدوري أن أختطف إحدى الطائرات بطاقمها وأرغمهم على الذهاب بي إلى المكان الذي أريده، ورجعت أجر أذيال الخيبة إلى باريس التي أصبحت في نظري وكأنها سجن كبير معتم، لم تعد مدينة النور والمباهج والغزوات التي أعرفها.

وتيقنت أن «الحرية» هي أعظم نعمة، لا يعرف الإنسان قيمتها إلا بعد أن يفقدها، وفكرت بالخروج والفرار برا أو بحرا أو على ظهر «بسكليت» أو حتى سيرا على أقدامي، غير أنني في النهاية «استخرت»، وجلست أنتظر الفرج واضعا يدي على خدي.

وكانت هناك أعداد هائلة من الطائرات جاثمة في المطارات، وأعداد أكثر هولا من المسافرين مكبّلين في أماكنهم، ووضحت أهمية الطيران، كأروع إنجاز حققه الإنسان في تاريخه، من حيث الأمن والأمان، ومن حيث تقصير المسافات، ومن حيث اختصار الزمن ودمج الشعوب بعضها مع بعض.

ولكي تعرفوا عن التطوّر المذهل لهذا الاختراع الذي بدأه الأخوان (رايت) مع مطلع القرن العشرين، واستطاعا لأول مرة أن يجعلا جمادا يرتفع ويعارض ويكسر جاذبية الأرض، لكي تعرفوا إلى أين نحن وصلنا، اقرأوا معي ما ذكرته إحدى المجلات المصرية القديمة كخبر إعجازي مفرح، وجاء فيه:

إلى اليسار صورة الطيارة البريطانية التي طارت في أوائل شهر أبريل (نيسان) من إنجلترا إلى الهند في سبعة أيام اجتازت في خلالها خمسة آلاف ميل ولم تتأخر عن الموعد الذي كان مقررا لوصولها سوى ثلاث ساعات وقد نجم هذا التأخير عن نشوب عاصفة شديدة بين بغداد والبصرة. وقد كان الغرض من رحلة هذه الطيارة أن تفتتح خط البريد الجوي بين إنجلترا والهند وقد مرت بالقطر المصري في طريقها إلى الديار الهندية - انتهى الخبر، والآن الطائرات النفاثة تقطع نفس المسافة في سبع ساعات لا سبعة أيام.

حتى خيال الإنسان وأكاذيبه أصبحت مضحكة ومقدورا عليها، وإليكم ما ذكرته كتب التراث عن أكبر كذبة عندما قال أحدهم أمام أحد السلاطين: إني رأيت طاووسا طول جناحه ثمانون ذراعا، وكان إذا فرشها يستظل بظلها ألف فارس بكامل سلاحهم.

فضحك السلطان حتى استلقى على قفاه، ثم خلع عليه خلعة.

واليوم نجد أن الكذبة أصبحت حقيقة علمية بسيطة، إذ أن الطائرة العملاقة (إيرباص 380) جناحها أطول من ثمانين ذراعا، ومن الممكن أن يستظل بظلها أكثر من ألف فارس بكامل سلاحهم وذخيرتهم كذلك.

والحمد لله أنني رجعت أخيرا سالما غير غانم.

[email protected]