السعودية: فلسفة تسخير العلم للرخاء والسلام

TT

في ومضة ذكاء متوقد: سجل المؤرخ (العلمي) الكبير: جون برنال هذه الملاحظة - في كتابه: العلم في التاريخ -: «كان أحد المفاتيح العلمية لتقدم الكيمياء هو (جهاز التقطير). وقد عُرف من قبل في شكله القديم (الأمبيق)، إلا أن الكيميائيين العرب قد أدخلوا عليه تطورا كبيرا واستخدموه في تقطير (العطور) على نطاق واسع. ولو لم يكُن القرآن قد حرّم الخمر، لعمد العرب إلى استخدام هذا الجهاز في تقطير الكحول»!!.. وبهذا تتوكد وظيفة القيم والأخلاق في تسخير العلم وتطبيقه.. ومدًّا لهذا المثل الحي نقول: لو سبق المسلمون غيرهم إلى اكتشاف (الذرة) لتبدل استعمال هذا العلم، ولتغيرت تطبيقاته إلى الأفضل.. لكن ذلك لم يحدث. وهذا دليل صاعق على غيبة المسلمين، بل على خيانتهم للأسرة البشرية، ذلك أن التخلف العلمي والتكنولوجي الذي يعيشه المسلمون لم يفوت عليهم حظوظا جزيلة في التنمية والنهوض فحسب، بل تسبب في (انحرافات مدمرة) لوجهة البحث العلمي، وفي مجال تطبيقاته.. إن (الخيانة الحضارية) - ها هنا - مركبة غير بسيطة، ومتعدية غير لازمة، بمعنى أنها خيانة للذات.. وخيانة لـ(الآخر) الذي هو الإنسان: أنّى كان جنسه ودينه وبيئته.

وإذا فات المسلمين أن يكونوا قدوة في الابتكار العلمي ومن ثم فاتتهم المبادأة في التطبيق الأخلاقي الراقي لذلك الابتكار، فإنه من الممكن أن يكونوا (قدوة) في (الاستعمال الإنساني الأخلاقي) في تطبيق ما حصلوا عليه - من غيرهم - من علوم وتكنولوجيا.

بمقتضى هذه المفاهيم اغتبطنا بأمر العاهل السعودي بإنشاء مدينة الملك عبد الله بن عبد العزيز للطاقة الذرية السلمية والطاقة المتجددة.. فهي مدينة متخصصة في مجال (الطاقة الأشد خطرا) في عصرنا وعالمنا من حيث قوتها العالية جدا والمدمرة جدا، بيد أنه تخصص ينزع من هذه الطاقة الفتاكة: عناصر الفتك والدمار وإبادة العمران والإنسان ليحولها إلى طاقة وديعة تُسخَّر للخير والرخاء والسلام.

ماذا وراء هذا التوجه السعودي إلى «تسخير العلم للخير والنماء والسلام»؟

وراءه منظومة قيم دينية وأخلاقية وإنسانية:

1) إن السعودية بلد يأخذ نفسه بالإسلام، وهو دين من خصائصه (الإبقاء على الجنس البشري)، والمنع - بحزم - من مجرد التفكير في إبادة البشر، فضلا عن تطبيق هذا الفكر الإبادي في الواقع.. ودع عنك أولئك الحمقى أو المجانين من المسلمين الذين يصورون الإسلام بأنه (القوة القصوى للإبادة). فهذه تصورات مريضة بينها وبين الإسلام الحق من الفروق ما بين العقل والجنون ببرهان أن نبي الإسلام - صلى الله عليه وآله سلم - رفض إبادة أعدائه وظالميه المشركين، وقد تهيأت له الفرصة الكاملة والموكدة للإنتقام والإبادة والمحق.. فقد قال - في ذروة أيام الاضطهاد -: «فناداني مَلَكُ الجبال فسلم عليّ ثم قال: يا محمد قد سمع الله قول قومك لك، وأنا ملك الجبال. وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك. فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (جبلان عظيمان في مكة) فقال النبي: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا».. والمفهوم المستنبط: أن الإبادة للجنس البشري - ولو كانوا كفارا - ممنوعة سواء بواسطة الأخشبين، أو بواسطة أسلحة نووية.

وقد يقال: وإذا استعمل عدو ما السلاح النووي ضدنا، وكنا نملك سلاحا نوويا أفلا نستخدمه ضده؟.. (إغراء القوة) يقول: نعم.. لكن (أخلاق القوة) تقول: لا، وهي أخلاق مستندة إلى أساس ديني. فالإسلام حرم مثلا - بإطلاق - إحراق الناس بالنار، ولو أقدم مجرم سياسي أو أيدلوجي في هذا العالم على إحراق مسلمين بالنار، فليس يحل لنا في هذه الحال: أن نحرق أهل جنسه وملته بالنار: اتكاء على قاعدة (المعاملة بالمثل)، فهذه القاعدة لا تُفعَّل بإطلاق، وفي كل الأحوال. مثال ذلك، لو أن فاجرا فجر بعرض مسلم، فليس يحل لهذا المسلم أن يفجر بعرض ذلك الفاجر بناء على قاعدة المعاملة بالمثل، ذلك أن هناك قواعد أخرى أخلاقية تمنع من تطبيق هذه القاعدة: قواعد مثل: تحريم الزنا.. وتحريم الفجور في الخصومة.. وتعدية المسؤولية إلى غير الفاعل المجرم: «ولا تزر وازرة وزر أخرى».

2) في منهج الإسلام هدى أخلاقي وإنساني لـ(القوة).. وينبغي - هنا - تعريف الأخلاق، وتعريف القوة. فمفهوم الأخلاق - في هذا المنهج - هو (منظومة المعايير والقيم المعنوية التي يعرف بها الإنسان الخير والشر كليهما). فيختار الخير عن علم وإرادة ورغبة، فيؤثر هذا الاختيار تأثيرا صالحا نافعا له، وللمحيط الإنساني الذي يعيش فيه: وطنا وإقليما وعالما إنسانيا فسيحا. فالأخلاق - في هذا المفهوم - (قوة معنوية) للارتقاء بذات الإنسان.. أما مفهوم القوة فهو (الطاقة المادية المسخرة بإرادة وعلم، المضبوطة بالأخلاق: في الباعث، والوسيلة، والغاية).. فالقوة - في هذا المفهوم - إمكانات مادية لتحسين الظروف الخارجية للإنسان: تحسين بيته، وسوقه، وإدارته، وبيئته، ومعمله، ومستشفاه، ومدرسته، وملعبه، ومصنعه، ومزرعته، ومواصلاته، واتصالاته الخ.

وثمة علاقة وثيقة بين الأخلاق والقوة - في هذين المفهومين -، وهي علاقة تكامل فلسفي، وتعاون وظيفي. فالأخلاق تهذب القوة وترشد استعمالها.. والقوة تعزز الأخلاق بالإمكانات المختلفة في كل مجال.

3) المسؤولية البشرية المشتركة (الصادقة) عن سلامة كوكبنا هذا.. ووصف المسؤولية بالصادقة اقتضاه النقد الضروري للنفاق السياسي والإعلامي الذي يسود العالم. فالجميع - تقريبا - يرفعون أصواتهم بضرورة الحفاظ على سلامة الكوكب ونقاوته، لكن الجميع - تقريبا - يكذب.. فهم شركاء في تلويث الأرض بشتى الملوثات: في الجو أو الهواء، وفي الماء، وفي التربة، وفي العين والأذن حتى ليكاد يتعذر أن تسحب رئات الناس أكسوجينا نقيا صحيا.. ومنهم من أثقل الأرض بالأسلحة الكيماوية الجرثومية.. وبالأسلحة النووية. فالمخزون من هذه الأسلحة يدمر الكوكب وما فيه ومن فيه 7 مرات تقريبا.. لكن السعوديين يصدقون حين يقررون استعمال الطاقة الذرية من أجل الخير والنماء والسلام.. إنه (سلوك عملي) في هذا المجال، وليس مجرد شعار كذوب يرفع.

4) إن السعودية وقّعت - في وقت مبكر - على اتفاقية منع انتشار صنع الأسلحة النووية.. وهناك من يوقع على مثل هذه الاتفاقات، ولكنه يبيت النية على النكث بالاتفاقات والمواثيق والعهود.. أما السعوديون فقد عُرف عنهم الوفاء بما يوقّعون عليه من عهود ومواثيق.. وهذا سلوك ديني أخلاقي إنساني مركب عماده: « وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً».

وهذا الوفاء ذو عمق إنساني وحضاري لا تخطئه عين مبصر عاقل ذي حس إنساني شفيف، إذ كيف يكون الحال لو تحول الكوكب إلى ساحة لصراع ثيران ذات (قرون نووية)؟!.

إن فصل الأخلاق عن السياسة، وعن العلم سلوك تجرعت البشرية كؤوسه المرة زمنا طويلا، ولا تزال تتجرع.. فقد اجترأت فلسفات عقيمة على الفصل بين الأخلاق وبين كل من العلم والسياسة، فسارعت أنظمة وسارع حكام - في التاريخ والواقع - إلى تطبيق هذه الفلسفات، فكان البلاء، وكان الفساد العريض، وكان التدهور والانحطاط.. وحقيقة الأمر أن الحياة البشرية لن تستقيم قط إلا بمقادير ضرورية من الأخلاق الدينية والإنسانية، ومنها خُلق تسخير العلم وتوظيف تطبيقاته أو التكنولوجيا من أجل الخير والنماء والرخاء والسلام.