المناظرة التلفزيونية أربكت الحسابات الانتخابية

TT

الحالة السياسية لبريطانيا أثناء الحملة الانتخابية هي «تابلوه» معقد يملأه الساسة والمرشحون، وجيوش النمل الحزبية تطرق الأبواب وتوزع الملصقات، وميكروفونات وكاميرات الصحافيين والأقلام والنوتة واللابتوب.

مطلوب منا كصحافيين تحويل أدمغتنا المملوءة بالكافايين والتبغ والمشروبات، مع الأصابع السريعة الطلقات على الكي - بورد، إلى خط إنتاج يدخل أوله ما يملأ آلاف الصفحات ليخرج برشامة صغيرة يبلعها المستهلك الإعلامي فتنمو في رأسه «الفهامة» التي اخترعها الكاريكاتوريست الراحل عمنا صلاح جاهين في «صباح الخير» الساخرة قبل نصف قرن ليفهم، «على الطاير» في عصر السرعة، التيارات السياسية فيصوت لمنفعته. البريطاني في ديمقراطية أصيلة وليست تقليدا يصوت حسب ترتيب الأولويات: الجيب، فالصحة، فالتعليم (لو كان رب أسرة) فأمنه كمواطن تمول ضرائبه البوليس، فقلقه من المهاجرين الوافدين.

ومنذ متابعتي انتخابات 1964 لم أصادف هما «وطنيا» (من النوع الشرق أوسطي) أو دورا للسياسة الخارجية في خيار الناخب (حتى انتخابات فبراير/شباط 1974 ثلاثة أشهر فقط بعد استخدام «سلاح البترول» في حرب 1973) والاستثناء نفر من المستثمرين تؤثر تشريعات الاتحاد الأوروبي على مصالحهم.

المادة الخام لخط الإنتاج؟

كلمات الساسة نفتش فيها عن تناقض مع المانيفستو المعلن، والأهم حواراتهم العفوية عند الاحتكاك اليومي بالناس العاديين في زيارات المدارس ومطاعم المستشفيات والمصانع، أو الباعة الجائلين وربات البيوت مشتريات الخضار (هناك سوق في كل قرية وحي تجارها يعرضون المنتجات على عربات اليد كأقدم سوق في دمنهور).

الكاميرات ورهط الصحافيين يتبع زعماء الأحزاب، وأي مرشح عادي وراءه على الأقل صحافي ومصور من الصحيفة المحلية. ردود الساسة العفوية على أسئلة مفاجئة ساعة التداخل مع الناس العاديين هي أشعة إكس الصحافية التي نرى فيها الهيكل العظمي الحقيقي للسياسي. وهي الفرصة الوحيدة المتاحة لنا ولن تتكرر إلا في الانتخابات القادمة (وإذا لم تكن حياة البرلمان المعلق قصيرة، فهي ستكون 2014 و2015 - وفي عمرنا هذا ربما تكون الأخيرة!).

التابلوه السياسي بشخوصه وتحركاته وكلماتهم هي المواد الخام لخط إنتاج البرشامة الصحافية ساعة بساعة للراديو، والمواقع الإلكترونية على الإنترنت، وأحيانا فوريا عند نقل التلفزيون مشهدا من الشارع الانتخابي أو مناظرة سياسية، سواء بالصوت أو باستخدام التويتر «الزقزقة الإلكترونية» (اجتهادي حتى يبتكر أحد الصحافيين العرب مقابل لـtwitter وللفعل to tweet) في شريط تحت الصور المبثوثة على الهواء، والأمر يطير عقول جيلنا من عواجيز السلطة الرابعة مترحمين على الآباء الذين لو سمعنا نصيحتهم والتحقنا بمهنة محترمة كالطب أو المحاماة أو حتى وظيفة «ميري» لكنا مستمتعين بلعب الطاولة في مقهى أصحاب المعاشات.

حتى أسبوع مضى كان التابلوه السياسي الانتخابي مألوفا: جواسيس الحزبين الكبيرين يفتشون عن «الهياكل العظمية المدفونة في خزانات المنافس» (تعبير إنجليزي يقصد به ما يخفيه السياسي من معلومات تكون فضيحة يسيل لها لعاب الصحافي) ويسربونها للصحافيين.

والانتخابات مهرجان صاخب لكتاب السخرية ورسامي الكاريكاتير وكتاب سيناريو البرامج الفكاهية، وحتى البيضة التقليدية التي يقذف بها طالب وزيرا أو زعيما سياسيا وضعه حظه العاثر في فناء المعهد أو الكلية (فغالبية الطلاب ثوريون اشتراكيون بفضل مصروف المسكين بابا، قبل أن تعيد صدمة الكسب من عرق الجبين توازن المفاهيم السياسية). بيضة 2010 كانت من نصيب زعيم المحافظين ديفيد كاميرون ظهر الأربعاء في جامعة بلايموث، فتحول قميصه المنشي، الأكثر بياضا من قميص رئيس الوزراء العمالي غوردن براون، إلى مبتل بلون صفار البيض، فقال ضاحكا «والآن عرفنا الإجابة على السؤال الأزلي: البيضة جاءت قبل الكتكوت؟». (في تغطيتي انتخابات 1984 أسرع وزير المحافظين السابق جون غمر بالانحناء متفاديا البيضة وكنت وراءه مباشرة في برمنغهام ولم يكن معي بذلة أو قميص إضافي فقضيت بقية اليوم أغطى الحملة ومنظري «عجة»)

اللون النشاز في تابلو 2010 هو الصعود غير المتوقع في شعبية نيكولاس كليغ، زعيم الديمقراطيين الأحرار (وليس الأحرار الديمقراطيين كما يسميهم البعض) عقب مناظرة تلفزيونية هي الأولى في تاريخ بريطانيا بين زعماء الأحزاب. وبعض استطلاعات الرأي وضعت كليغ في المرتبة الثانية بعد كاميرون؛ سابقا براون.

فجأة تعطل سير خط إنتاج برشامة التحليل وخشينا من أن تسبب الصداع للمستهلك الإعلامي بدلا من «الفهامة» في رأسه. فالحزب منذ أن كان الأحرار (قبل اندماجه من ربع قرن مع الحزب الديمقراطي الاشتراكي قصير العمر المكون بانفصال مجموعة يمينية عن العمال عام 1980 بزعامة وزيرة المعارف السابقة البارونة شيرلي ويليامز، ووزير الخارجية السابق الدكتور ديفيد اوين) لم يشكل حكومة مستقلة، وحتى في ائتلافه مع العمال (1975 - 1977) كان له وزراء لكنهم ساروا ضمن سياسة الحكومة العمالية.

وعلى الرغم من أن نظام الدوائر هو الأفضل ديمقراطيا فإنه يصيبنا، كمعلقين، بالصداع عند ترجمة نصيب أي حزب، غير الكبيرين، المحافظين والعمال، من الأصوات العامة في استطلاعات الرأي إلى مقاعد برلمانية.

العمال بزعامة توني بلير حصلوا على أغلبية مريحة (60% من المقاعد) في انتخابات 2005 بنسبة 38% فقط من أصوات الناخبين، بينما يحتاج المحافظون إلى نحو 45% لتحقيق أغلبية تماثل العمال وأغلبية مقعد واحد فقط للمحافظين تتطلب 41%.

ناخب المحافظين التقليدي يعيش في الريف في الإقطاعيات السابقة بكثافة سكانية قليلة بينما تصوت الغالبية الساحقة من سكان المدن والمناطق الصناعية الكثيفة السكان للعمال.

مؤيدو الديمقراطيين الأحرار تتراوح نسبتهم بين 15% و24% يتناثرون في أنحاء المملكة في 650 دائرة، وحصولهم على أغلبية (326 مقعدا) يتطلب أكثر من 66% من مجموع الناخبين. وهو أمر مستحيل في مجتمع تدفعه تركيبته الطبقية إلى استقطاب أكثر من ثلثي الناخبين بين المحافظين والعمال. طبقة الملاك تصوت للمحافظين، ومعهم الطبقة التصنيعية العقلية ذات الاتجاه الرأسمالي، بينما تدفع النزعة الاشتراكية ناخبي الطبقة العاملة نحو العمال؛ ويتوزع الثلث الباقي بين القوميين (ويلز واسكتلندا، واستقلال المملكة المتحدة) والمستقلين (30 مرشح هذه المرة)، والخضر أيرلندا الشمالية واليمين الفاشي، ولذا تتراقص نسبة المصوتين للديمقراطيين الأحرار حول 20%، تقليديا.

شعبية زعيم الأحرار كليغ بفضل مناظرة التلفزيون أدخلتنا في «حسبة برما» المصرية الشهيرة، فتساوت تخمينات صحافي غطى دستة انتخابات ومتمرس في تحليل سيرها مع تخمينات الأسطى تريفور سائق تاكسي لندن الأسود الذي استقللته من موقف البرلمان فأرغمني على الاستماع لتحليله للانتخابات محذرا من سياسات كليغ الأوروبي النزعة الذي يريد الالتحاق بمنطقة اليورو لاغيا الإسترليني وهي كارثة يراها الأسطى تريفور أكثر فداحة من غروب الشمس عن الإمبراطورية.