محو الثقة

TT

ربما تكون «ثقة» مجرد كلمة لا تعدو عدد حروفها الأربعة، ومع ذلك من الواضح أن الرأي العام الأميركي بات أشبه بـ«سلاح تشكك شامل» غير موجه، وليس من الصعب التعرف على السبب وراء ذلك. إلا أنه حري بمن يسعون لاستغلال غياب الثقة ومشاعر السخط والغضب لتحقيق مكاسب سياسية التفكير مليا بشأن الأضرار غير المقصودة المترتبة على مساعيهم.

في الواقع، إن حركة «حفلات الشاي» التي جرى الترويج لها على نطاق واسع تتعلق برموز وصراخ في الجزء الأكبر منها. وعند تدقيق النظر يتضح لنا أن «الحركة» التي تضم تحت مظلتها مولعين لدرجة الخبل باقتناء الأسلحة ومتظاهرين ضد الضرائب وأنصار متحمسين لمعيار الذهب الدولي وسارة بالين وجماعات ضغط موالية لشركات التأمين و«دستوريين» لم يقرأوا الدستور ومشتركين في برنامج «ميديكير» يعارضون نظام الرعاية الصحية الخاضع لإدارة الحكومة وحفنة من المخبولين يدعون أن الرئيس أوباما ولد في دولة أخرى ومجموعة من العنصريين صراحة ومجموعة من السياسيين من فئة «القطط السمان»، ليست في حقيقتها قوة فكرية أو سياسية متناغمة.

بيد أن الملاحظ أنه حتى الأفراد الذين يرفضون تماما فكرة الانضمام إلى «حفلات الشاي» فقدوا ثقتهم في المؤسسات القوية التي من المفترض أنها تعمل لمصلحة الجمهور العام ـ الأمر الذي تكمن وراءه أسباب وجيهة. ليس علينا للتأكد من ذلك سوى الاطلاع على العناوين الرئيسية للأخبار.

من الواضح أنه ليس هناك ما يدعو للثقة في «وول ستريت». من الناحية النظرية، يتمثل الهدف الرئيسي وراء وجود النظام المالي في خدمة الاقتصاد - والشعب الأميركي - من خلال تمرير رأس المال على نحو يحقق القدر الأكبر من الاستفادة. في المقابل، تكشف الاتهامات التي وجهت الأسبوع الماضي لـ«غولدمان ساكس» إلى أي مدى جرى قلب الأسس التي تقوم عليها الرأسمالية رأسا على عقب من جانب مسؤولين ماليين يحسبون أن الاقتصاد يوجد لخدمتهم.

وتدور الاتهامات بصورة أساسية حول قيام جون بولسون، أحد أقطاب مجال الصناديق الحمائية، بالرهان بمبلغ وصل إلى مليار دولار على أن سوق العقارات ستنكمش، ونجح في إقناع «غولدمان ساكس» بحشد وجمع الأفراد والجهات التي ستراهن على غير ذلك. وتشير المزاعم القائمة إلى أن الصفقة جرى التلاعب فيها بعد ذلك على نحو يجعل فوز بولسون برهانه أمرا يكاد يكون مضمونا، وهو ما حدث بالفعل. من جهتها، تنفي مؤسسة «غولدمان ساكس» مزاعم تورطها في نشاطات احتيال، وتشير إلى أنها على أية حال خسرت أموالا في إطار هذه الصفقة.

وبعيدا عن مسألة ما إذا كان تصرف «غولدمان ساكس» يقع مباشرة أمام أو خلف الخط الفاصل المميز لما هو قانوني، فإن التساؤلات القائمة الآن: ما هي القيمة الاجتماعية الإيجابية التي تحملها مثل هذه الصفقة؟ وكيف يعود «التزام الدين المكفول المركب» بالفائدة على أي شخص فيما عدا مضاربي «غولدمان ساكس» الذين يتلقون أموالا طائلة وجون بولسون الذي حصد مبالغ هائلة هو الآخر؟ هل يشكل هذا نظاما يمكن لبقيتنا الثقة به؟

من بين القصص الأخرى المرتبطة بغياب الثقة فضيحة دعارة الأطفال داخل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. الأحد، وأثناء زيارته لمالطة، صلى البابا بينديكت السادس عشر مع ثمانية من البالغين ممن كانوا ضحايا لاعتداءات جنسية في الطفولة على يد قساوسة. وأعرب البابا عن «خجله وأسفه». لكن الملاحظ أن كل يوم جديد، يحمل فضائح لم تكن معروفة من قبل عن قساوسة تورطوا في دعارة الأطفال وجرى نقلهم إلى أبرشيات أخرى، بدلا من تجريدهم من منصبهم وتسليمهم إلى السلطات.

جدير بالذكر أن استطلاعا للرأي أجرته محطة «سي إن إن» كشف عن أن 56% من الكاثوليك الأميركيين رافضين لأسلوب تعامل بينديكت مع الأزمة. وبذلك يتضح أنه حتى حكمة «ممثل البابا» باتت تحيطها الشكوك.

ربما كان الأمر أكثر إثارة للاهتمام في استطلاع جديد للرأي أجراه «مركز بيو للأبحاث» وكشف عن تراجع شديد في ثقة الرأي العام في الحكومة الفيدرالية، حيث أعرب 22% فقط من الأميركيين عن ثقتهم في الحكومة كل أو معظم الوقت. وقال 19% فقط ممن شملهم الاستطلاع إنهم «راضون بصورة أساسية» عن الحكومة، بينما قال 56% إنهم «محبطون» ووصف 21% آخرون أنفسهم بأنهم «غاضبون».

طبقا للمسح الذي أجراه «بيو»، فإن الأميركيين لديهم وجهات نظر سلبية حيال الكثير من المؤسسات الكبرى - مثل المصارف والمؤسسات المالية والكونغرس والشركات الضخمة ووسائل الإعلام الإخبارية الوطنية والوكالات الفيدرالية وصناعة الترفيه ونقابات العمال.إلا أن الأميركيين لا تزال لديهم وجهة نظر إيجابية حيال الكليات والجامعات والكنائس والشركات الصغيرة وشركات التقنية. وانقسم من شملهم الاستطلاع بالتساوي حول إدارة أوباما، مع تمسك 45% بوجهة نظر إيجابية نحوها، وإعلان 45% وجهة نظر سلبية تجاهها. بالنظر إلى المناخ الراهن، ربما لا يشعر الرئيس بالقدرة على إعلان تحقيقه نصرا أخلاقيا. لكن تبقى هناك بعض التناقضات في النتائج التي خلص إليها «بيو»، حيث توصل إلى أن الأميركيين يؤمنون بقوة أن «فرض المزيد من السيطرة الحكومية على الاقتصاد» فكرة سيئة، بينما يؤمنون بهامش أكبر بكثير أن «فرض تنظيم أشد صرامة على الشركات المالية» فكرة حسنة. ويعد هذا الوضع عصيبا خاصة أمام الكونغرس الذي يحظى حاليا بأدنى معدل قبول لأدائه على الإطلاق، يبلغ 25%.

لقد عمد الجمهوريون، من ناحيتهم، إلى التشجيع على حالة فقدان الثقة تلك، بناء على فرضية أنها ستضر بمن يتمتعون بالسلطة، وهم الديمقراطيون. وبالفعل، انحسر معدل تأييد الحزب الديمقراطي بصورة بالغة وصلت إلى 38%. لكن المشكلة أن معدل تأييد الحزب الجمهوري انكمش أيضا إلى 37%.

والعبرة التي يتعين على المخططين الاستراتيجيين المتهورين داخل الحزب الجمهوري تعلمها في هذا الصدد تتعلق بمن يعيشون داخل بيوت من زجاج.

* خدمة «واشنطن بوست»