النمر الإسلامي والنمر الهندوسي.. والانحياز الإيجابي إلى التنمية والسلام

TT

تزداد بين المملكة العربية السعودية والهند علاقة تجعلنا نستحضر بدايات نموها في الستينات على أيدي رموز مضيئة في العمل السياسي من الجانبين الهندي والعربي، مثل الملك فيصل بن عبد العزيز والرئيس جمال عبد الناصر والبانديت نهرو. ثم بدأ ذلك النمو بالانحسار إلى أن جاء الملك عبد الله بن عبد العزيز قبل ثلاث سنوات، وتحديدا من خلال زيارة تاريخية للهند من الثلاثاء 24 إلى الجمعة 27 يناير (كانون الثاني) 2006، يعيد إلى تلك العلاقة حيويتها ويضيء - إذا جاز التعبير - المزيد من الشموع لكي تستمر الإضاءة بين دولتين تجمعهما الرؤى المشتركة بنسبة ملحوظة. وهذه الرؤى لخصها «إعلان نيودلهي» الصادر في اليوم الأخير للزيارة بالقول: «إن زيارة الملك عبد الله بن عبد العزيز تعكس نظرة القيادتين السعودية والهندية الاستراتيجية الواسعة، والعزم على العمل معا عن قُرب لرفاهية ومصلحة شعبيهما، ولخدمة السلام والاستقرار في العالم».

وفي ظل هذه العلاقة المستقرة والمتطورة في منأى عن الضغوط والتحديات جاءت الزيارة التي قام بها الأمير سلمان بن عبد العزيز للهند يوم الأحد 11 أبريل (نيسان) 2010، مصحوبا بوفد من رجال الأعمال على نحو ما سبق أن فعل الملك عبد الله بن عبد العزيز في جولته التي شملت الصين والهند واليابان وماليزيا، وهو اصطحاب بات جزءا من أجندة الزيارات الرسمية السعودية، كما جاءت زيارة الأمير سلمان مصحوبا بالأبناء الخمسة الأمراء فيصل ومحمد وتركي ونايف وبندر لكي يضيفوا بالمشاهدة وإن في رحلة خاطفة ما يسمعونه من والدهم عندما يروي وهو المعايش والقارئ والمتابع لتطورات العلاقة العربية - الهندية في حقبتيها: حقبة الحياد الإيجابي بمفهوم عبد الناصر، الذي يتسم بالتحدي للغرب والشرق في زمن الحرب الباردة، والحياد الإيجابي بالمفهوم السعودي الذي يتسم بمنأى عن التحدي بالسعي لجمع الغرب والشرق على كلمة سواء. وجاءت «المبادرة العربية» كما تكونت من خلال مشروع الملك فهد في «قمة فاس» ورؤية الملك عبد الله بن عبد العزيز التي انتهت في «قمة بيروت» مبادرة عربية بالإجماع، تؤكد ارتياحا وقبولا على المستوى الدولي لهذا التوجه. ومن الجائز الافتراض أن هذه الرؤية كانت من جملة مستلزمات ساعدت بنسبة ملحوظة على أن تبدأ ملامح التصدع النسبي للمرة الأولى في العلاقة الأميركية - الإسرائيلية، وعلى أن يتواصل العلاج للعقدة الإيرانية وفق قاعدة المجادلة بالتي هي أحسن، ثم أن يبادر الرئيس باراك أوباما إلى استنساخ «العقيدة النووية» من «المبادرة العربية»، وكلتاهما حل وسط بين مواجهة العناد بالحرب أو المواجهة بالحسنى، حتى إذا تطلب الأمر الكثير من سعة الصدر والكثير من كظم الغيظ. بل إن عقيدة باراك أوباما ومبادرة عبد الله بن عبد العزيز قبل ذلك بثماني سنوات هما للسلام الذي تتوق إليه شعوب العالم تجاوبا مع الديانات السماوية الثلاث والمذاهب الدنيوية الفلسفية الأخرى مثل الهندوسية التي تعتنقها الهند ذات المليار والمائة والأربعين مليون نسمة، بنسبة ثمانين في المائة. أما المسلمون المائة والثلاثون مليون نسمة فيشكلون نسبة 14% من مجموع السكان، يليهم المسيحيون بنسبة 2,4%، والسيخ بنسبة 2%. ونشير إلى أن عدد المسلمين في الهند هم بعدد سكان باكستان المسلمة بالكامل، التي لا تستقر على حال، والتي كان عدم الاستقرار فيها واحتمال تسرّب «طالبانيها» وبمساعدة من إيران إلى الإمساك بسلاحها النووي يتفجر عشوائيا من جملة الهواجس التي قادت إلى «العقيدة النووية» للرئيس أوباما، ثم مسارعته إلى ترجمتها إلى قمة استضافت الدول الست والأربعين المدعوة إليها من جانبه، وامتناع الدولة المشكلة إسرائيل عن الحضور، مع أن المشاركة، وفي الوقت نفسه دعوة إيران العصية على الإرادة الدولية في الموضوع النووي، وكذلك دعوة كوريا الشمالية، كان ربما سيحقق مصالحة تدعم تلك العقيدة. وهذه المصالحة يتوق إليها الجميع وفي المقدمة السعودية القادرة، لو كانت قيادتها مسكونة كالجارة إيران بتطلعات الهيمنة، على امتلاك السلاح النووي تصنيعا أو استعارة، والهند التي تملك هذا السلاح إلا أنها تتمنى أن تدق في أي لحظة ساعة الخلاص بنفض اليد من هذا «التراث» النووي الذي لا يتناسب مع عقيدة المهاتما غاندي، وأوجبت امتلاكه ظروف الحرب الباردة ويوجب مناخ التعايش الدولي النظيف التخلص منه خلال سنتين وعلى نحو ما فعلت أوكرانيا وحذت حذوها المكسيك وكندا وتشيلي.

ومع أن التبادل التجاري بين المملكة العربية السعودية والهند في خط بياني متصاعد، كونه موضع اهتمام من القيادتين، وهذا ما يرتاح إليه رجال الأعمال في الدولتين، إلا أن زيارة كالتي قام بها الملك عبد الله بن عبد العزيز بعد أسابيع قليلة من مبايعته خلفا لأخيه الراحل الملك فهد بن عبد العزيز، ثم رد رئيس الوزراء الهندي الدكتور مانموهان سينغ بزيارة للمملكة يوم الأحد 28 فبراير (شباط) 2010، فالزيارة التي قام بها الأمير سلمان بن عبد العزيز يوم 11 أبريل 2010، من شأنها أن تضع العلاقة الاقتصادية بين الهند ذات المليار والمائة والأربعين مليون نسمة، التي هي النمر الهندوسي الاقتصادي الصامد في زمن الارتباك المالي والاقتصادي الدولي، والنمر العربي الإسلامي الذي يزداد صلابة ومُضيّا في عملية تصنيع لا تقتصر على المدن الرئيسية وإنما تشمل المحافظات، وهو ما بدا واضحا في المدن الصناعية التي وجّه الملك عبد الله بن عبد العزيز بسرعة الإنجاز لها. كما تلفت انتباهنا إشارة الأمير سلمان وقبل ثلاثة أيام من التوجه إلى الهند خلال تدشينه يوم الأربعاء 7 أبريل 2010 أعمال تطوير «مدينة سدير للصناعة والأعمال» إلى أن ثمة استراتيجية جديدة يتم العمل في ضوئها، وهي الهجرة المعاكسة، أي هجرة متدرجة من المدن إلى المحافظات أو استباق هجرة سكان المحافظات إلى المدن، وبذلك تتراكم المشكلات على أنواعها، وأبرزها مشكلة ازدحام السير. والاستباق الذي نشير إليه هو على نحو ما قاله الأمير سلمان وهو يدشن أعمال تطوير «مدينة سدير للصناعة والأعمال»، يحيط به حشد من الأمراء ورموز النهضة الصناعية والاقتصادية من فعاليات اقتصادية، «إن أهمية المدن الصناعية أنها توفر المنتجات وتؤمّن فرص العمل وتواكب الحراك الاقتصادي الكبير الذي يشهده الوطن»، مشددا على حرص مجلس منطقة الرياض على إيجاد جامعات وكليات ومدن صناعية في محافظات المنطقة «حتى لا تكون هناك هجرة من المحافظات إلى العاصمة». وكأننا بالأمير سلمان عندما استعاد من الذاكرة التي تستحضر الوقائع بالتفاصيل والأرقام والأسماء عندما يتطرق في الحديث إلى أمر ما أمام زائريه، كيف أن مدينة «سدير» كانت قبل سنوات مكانا للصيد ثم أصبحت الآن مدينة صناعية تتوفر فيها فرص التوظيف لأهالي المحافظة والمحافظات المجاورة.. كأننا بأمير الرياض والذاكرة التي نغبطه مثل كثيرين عليها يقارب بين المدينة التي باتت من حيث الصناعة بأهمية حلوان في زمن عبد الناصر كقلعة صناعية وبين الموقع الذي أُقيمت فيه «جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية» المرموز إليها بكلمة (كاوست)، التي افتتحها الملك عبد الله مساء يوم الأربعاء 23 سبتمبر (أيلول) 2009 بحضور حشد من كبار أهل الحكم والعِلم عربيا ودوليا. والموقع المشار إليه عبارة عن قرية «تول» على الشاطئ بين مدينة جدة والمدينة المنورة، وهي قرية منسية وعبارة عن استراحة للعابرين بين المدينتين، أما سكانها فيعتاشون على صيد السمك، ثم هبطت عليهم الثروة المزدوجة: ثروة مالية لأن أسعار الأراضي في المنطقة باتت خيالية، وثروة معنوية لأن الصرح العلمي الأهم في المملكة بات في قريتهم الصغيرة الوادعة.

وهذا الانطباع عن سلمان بن عبد العزيز لجهة مواكبته خادم الحرمين الشريفين في موضوع النهوض الصناعي، وحرصه على متابعة التطور في قطاع الأعمال من صناعة وتجارة، فضلا عن خصال طيبة أخرى كثيرة لجهة الحالات الإنسانية، حاضرة في محيط أهل القرار الهندي وبالذات أولئك الذين يقصدون المملكة في مهمات رسمية أو لإنجاز مشاريع، ويحرص هؤلاء على أن يكون اللقاء بالأمير سلمان من ضمن برنامجهم. كما أنه أكثر من حاضر في محيط الذين عملوا على مدى بضعة عقود سفراء للهند لدى المملكة وتابعوا عن كثب كيف يقود أمير العاصمة أنشط عملية تطوير في تاريخ المدن. ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر محمد حامد أنصاري نائب رئيس جمهورية الهند الذي تربطه بالأمير صداقة نشأت أيام كان أنصاري سفيرا لبلاده لدى المملكة العربية السعودية.

واللافت للانتباه تركيز أهل الحكم في الهند، كأهل الحكم في السعودية، منذ زيارة الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى الهند وخلال زيارة الأمير سلمان، وبينهما زيارة رئيس وزراء الهند للسعودية، على توصيف العلاقة بين بلديهما بـ«الاستراتيجية» وفي جميع المجالات. بل إن كثيرين في أوساط مجتمع الاقتصاد والتجارة والصناعة من الجانبين يتوقفون عند أن ما يربط البلدين هو «شراكة استراتيجية» نمت بالتدرج وفي منأى عن أي أزمات ومن دون أن تشكّل المذهبية الهندية عائقا لدى الدولة التي خصها الله بالحرمين الشريفين أو أي حساسية. وطوال 63 سنة من العلاقات بدأت عام 1947 وتعززت كخطوة أولى بعد زيارة قام بها الملك سعود إلى الهند عام 1955 ووصلت القمة بزيارة الملك عبد الله بن عبد العزيز ثم شكّلت زيارة الأمير سلمان ما يشبه الاطمئنان إلى هذه العلاقات.. إنه طوال الـ63 سنة هذه لم يحدث أن تأزمت العلاقة بين البلدين، وذلك لأن الحكمة والمنطلقات كانت بمثابة التحصين لها من المفاجآت. ومن ثمار «الشراكة الاستراتيجية» أن في المملكة نحو مليون ونصف مليون هندي لا شكوى منهم. كما أن نحو 200 ألف هندي مسلم بين حاج أو معتمِر على مدار السنة. ومقابل هذا الحضور نجد الأمير سلمان يقول للشعب الهندي خلال زيارته، وتحديدا لمناسبة منحه الدكتوراه الفخرية من «الجامعة الملية الإسلامية» في الهند، ما معناه أن «الشراكة الاستراتيجية» لا تقتصر على التبادل التجاري والاتفاقات المعقودة وإنما تشمل مساهمة عمال وخبراء من الهند في عملية البناء والتطوير في المملكة. كما لا بد شعر أركان «الجامعة الملية» ومعهم مائة المليون ونصف المليون مسلم في الهند باعتزاز وهم يسمعون زائرهم الأمير سلمان الابن الخامس والعشرين للملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، يقول لهم إن والده طيّب الله ثراه كان يقدّر الكثيرين من علماء المملكة الذين ذهبوا إلى الهند لطلب العِلم ورجعوا لبلادهم وعملوا في القضاء وتولوا أعمالا مهمة، مضيفا بما يؤكد الاعتزاز: «إن العلاقات قديمة قِدم التاريخ بين الهند والعالم العربي». كما أنعش معنويات أركان الجامعة ومائة المليون ونصف المليون مسلم أن الأمير خصّ هذه الجامعة بالذات التي تضم أكثر من خمسة آلاف طالب، والتي هي إذا جازت المقارنة «أزهر الهند المسلمة»، دون غيرها من سائر جامعات أرادت تكريمه، بتشرّفه الحصول على الدكتوراه الفخرية من «الجامعة الملية الإسلامية» التي سبق أن منحت الشهادة الفخرية هذه لخادم الحرمين الشريفين عندما زار الهند. أما الحيثيات التي بُني عليها منح الدكتوراه الفخرية للأمير سلمان فهي أنه المعروف دوليا بأعمال الخير ورجل الدولة المشهود له عالميا ورجل النزاهة والخُلق الرفيع، وكذلك مساهمات الأمير في جوانب اجتماعية وثقافية وإنسانية، وترؤسه الجمعيات الخيرية والصحية، والمساهمة في دعم المؤسسات التعليمية ومنها المعاهد التعليمية الهندية في الرياض.

تبقى الإشارة إلى أن دعوة الأمير سلمان إلى زيارة الهند كانت في مستوى مكانته وجاءت من نائب رئيس الجمهورية الهندية، وليست من عمدة نيودلهي أو حاكمها أو محافظها. كما تبقى الإشارة إلى أن ما سبق أن عرفه الأمير سلمان بن عبد العزيز عن الهند من خلال قراءاته وأحاديث زواره المسؤولين والدبلوماسيين الهنود وما تختزنه الذاكرة من رؤية عبد الناصر للهند والشغف الروحي لكمال جنبلاط بنسّاكها، فضلا عمّا سمعه في مناسبات من السعوديين من الذين طلبوا العِلم ولو في الهند، وقف عليه ميدانيا خلال زيارة لم يتصور أن احترام الجمع الهندي من سياسيين ومثقفين ودبلوماسيين ومن الديانتين بهذا القدر من الود والحميمية والتقدير الكبير من جانب الهند، التي أورث زعيمها التاريخي المهاتما غاندي سلالات الحكم بعده كم أن الانحياز عندما يصبح إيجابيا يكون لصالح التهدئة والمرونة في سبيل التنمية والسلام واحترام خصوصيات الآخرين والنأي عن التدخل في شؤونهم، وهذا منهج تتمنى الهند التبشير به في حال تَحقّق سعيها لتكون عضوا دائما في مجلس الأمن بدعم مأمول من السعودية. كما أن التوريث نفسه جاء من جانب الملك عبد العزيز لأبنائه وللسلالات التي تتولى المسؤولية من بعده، وهذا ما يلاحظه المرء مثل حالنا في الأمير سلمان عندما تحدّث خلال زيارة الهند بروحية ومفردات المهاتما غاندي، وقال أمام النخبة السياسية والفكرية الهندية: «إن الإرهاب آفة، نستنكره من أي جهة كانت، وإن ديننا الإسلامي يمنع أن يكون هنالك إرهاب أو قتل أو التسبب في إضرار البشر، وأنا في كلامي هذا أُمثل المملكة وأُعبر عن سياساتها، وهي سياسة التعاون والتآخي والتواد». كما يلاحظه المرء مثل حالنا عندما نكون في مجلس الأمير ونسمعه في سياق التحليل للموقف يشدد على أن المواطن الصالح والصادق هو الذي يؤمن بأن وطنه أولا. وبهذا الإيمان يسلَم الوطن ويطمئن المواطن ويتعزز مبدأ المواطنَة.. كما تتعزز أهمية الانحياز الإيجابي إلى التنمية والسلام.