هل الحقّ على الجمهور؟

TT

لو كنت من الراغبين في حضور إحدى حفلات «مهرجان الرقص المعاصر»، الذي يقدم حاليا في بيروت، عليك أن تحجز بطاقتك سلفا، وإلا بقيت على الباب، ولن يتمكن من أن يشفع لك أحد. فالإقبال كثيف على هذه الحفلات، بشكل من الصعب تفسيره. وقد يظن البعض أن الرقص المعاصر هو «طقش» و«فقش»، يجذب طالبي الوجبات الفنية السريعة والخفيفة، لكن الحقيقة هي غير ذلك. والجمهور المتنامي يعرف، بعد ست سنوات اختبر خلالها هذا المهرجان، أنه ذاهب للتأمل والتفكير، لا لـ«البهرجة» و«التصفيق». فهو فن أقرب إلى المسرح التجريبي الذي يستفيد من طواعية الجسد، ويحتاج تركيزا، وطول بال، ويقترب من المزاج النخبوي ولا ينتمي إلى الفنون الترفيهية البسيطة، وقد تدخل فيه التكنولوجيا، ويستفيد من علوم الرياضيات، ويلامس الفلسفة. تسمع كثيرين وأنت تخرج من هذه العروض، وهم يتساءلون عن معنى ما شاهدوه، لكن هؤلاء، يعبرون رغم ذلك عن فرحتهم، باكتشاف فرجة مختلفة عن تلك الباهتة التي أرهقتهم، بسبب فنانين باتوا يستسهلون الصعود على المسرح ويستغبون الجمهور. غالبية فرق الرقص المعاصر المدعوة إلى المهرجان غربية، والعربية بينها يتم انتقاؤها بعناية لمهارتها وتمايزها. وقد يتسرع البعض ويظن أن الإقبال سببه «عقدة الخواجة» لكن كثرة العروض الغربية في بيروت التي لا تستطيع تغطية نفقات فرقها، لقلة الحضور، تدحض الفكرة من أساسها.

كثر الغثّ في بلادنا بحيث صار السمين مطلبا، ولو كان صعبا عصيا على الهضم. ومن دون تسميات كي لا يغضب المستهترون، فإن كثيرا من المسرحيات التي تقدم في بيروت، يخرج متفرجوها نادمين على مضيعة الوقت والليرات في آن معا. ومن يشترون الكتب لهم الشكوى الأليمة ذاتها.

واتهام المتفرج أو القارئ بأنه جاهل، ولا يقدّر الفنون أمر يحتاج إلى إعادة نظر. فقد بيعت «رواية «عزازيل» بكثرة ولا تزال، وأحب الناس «ذاكرة الجسد» وها هم يشترونها رغم مرور سنوات على صدورها، واستعراضات فرقة «كركلا» أيام عزها لا تزال عالقة في ذاكرة الناس، قبل أن تجنح وتقع في مطبات، تنتقد في السر، ولا يجرؤ على الجهر بها أحد. والمشكلة ليست في الجمهور بل في الاستخفاف بذائقة الناس.

بعض الكُتّاب اليوم، يظنون أنهم يصبحون عظاما، بتكرار نشر صورهم ومقالات عن كتبهم، فيما لا يقرؤهم غير أصدقائهم، من باب المجاملة.

وظن الناس أن عمليات التجميل تصنع فنا كبيرا ومجدا عظيما لا ينافس، واكتشفنا منذ أيام طالبة صغيرة، تغني ببنطلون جينز، وسحنة لم تلونها الأصباغ، على غيتار متواضع، كلمات خفيفة الظل مأخوذة من أفواه الشباب، تسرق قلوب الناس، دون أن تظهر على شاشة تلفزيونية ولو لمرة واحدة. كان يكفي ميشال كسرواني، هذه الطالبة العفوية، أن تكون عميقة وذكية، كي يبحث عنها، أكثر من مائة ألف مستمع، خلال فترة قياسية، على «يوتيوب»، ويطاردوا أغنيتها، دون دعاية أو ترويج.

هذا لا يعني أن الموهبة وحدها باتت قادرة على الاختراق، لكن بالتأكيد الناس سئموا الزيف، لكثرة ما تَفشّى وانتشر، وباتوا يشتهون ما هو حقيقي ويعبّر عنهم، ويحترم فطنتهم.

ليست مصادفة أن تبقى قاعات المؤتمرات، التي باتت في لبنان أكثر من الهمّ على القلب، فارغة إلا من المحاضرين فيها، أو تبرمج ندوات ثم تلغى لأن الجمهور قرر مقاطعتها، أو يجد مسرحي نفسه مع متفرج واحد في الصالة أو اثنين. وليست المؤامرة هي التي تجعل أديبا عربيا يترجم كتابه إلى لغة أجنبية، معزولا عن القراء باللغة التي ترجم إليها، أو تضطر دار النشر، التي تورطت فيه، إلى أن تتلف مخزونها من كتبه لترتاح منه. صحيح أن الرواية العربية قرنت نفسها بالعالمية من خلال جائزة «بوكر»، لكن هذه الجائزة التي طالتها الأقاويل، لم تنقذها مرجعيتها الإنجليزية، فالرابحون حتى الآن لم نرَ من عالميتهم شيئا. وكان من المحزن جدا أن نرى بهاء طاهر يخرج من جائزة «الإندبندنت» التي كان مرشحا لها قبل أيام، رغم أنه ربما الوحيد الذي فاز بجائزة «البوكر» دون أن تطاله تهم التزييف والتزلف. ومع ذلك لم تصمد رواية بهاء طاهر «واحة الغروب» أمام روايات آخرين ترجموا مثله إلى الإنجليزية، منهم الكونغولي والهندي والبنغالي. واللافت أن المرشحين العرب جميعهم وبينهم إضافة إلى المصري بهاء طاهر اللبناني إلياس خوري والعراقي حسن بلاسم، لم يصل أي منهم إلى اللائحة القصيرة، والوحيد الذي صمد هو رفيق شامي الذي يكتب بالألمانية، ويعيش خارج المستنقع العربي.

أن لا يكون للعرب خوسيه ساراماغو أو أورهان باموك أو ميلان كونديرا، ممن ينتظر العالم رواياتهم كي تترجم، يعني ربما أن الرواية العربية، مثل فنون كثيرة أخرى، لا تزال تحتاج إلى من ينحت في صخرها. ومع التقاعس المتزايد، والتهافت على نجوميات الصفحات الثقافية، والجوائز والاحتفالات الكرنفالية، ثمة ما يبشر بمزيد من التحدّر.

الجمهور لا يدير ظهره إلى الجميل والشائق، وثمة من ينتظر متعةً ما تأتيه من حيث لم يكن ينتظر، لكن الفساد الذي بدأ ينخر عميقا في البنية الثقافية العربية، في السنوات العشر الأخيرة، ضرب آخر المداميك التي كان يعول عليها. وكي لا نكون مجحفين ومتشائمين، فإن التعويل اليوم، ليس على الأسماء البراقة التي سرعان ما يصيبها دوار الشهرة والكسب المادي الملتوي، وإنما على فئة تعمل في الظل، ولها كل المصلحة في أن تبقى حيث هي إلى حين. فثمة من ركن إلى المدونات، وهناك من لجأ إلى «اليوتيوب»، وغيرهم تأبطوا كاميرات الفيديو ليصنعوا أفلامهم، وشبان منهم من نعرفهم وغيرهم نجهلهم، ينشطون اليوم على تطوير الأدب الرقمي الذي يقرن القصيدة بالصورة والموسيقى. وهؤلاء لهم نتاجات بديعة، لم تجد انتشارا يليق بها بعد. هؤلاء جميعا ربما لا نعرف لهم أسماء أو وجوها، لكن خلاصنا قد يكون بين أيديهم، بعد أن لمعت الأسماء البراقة، حتى صارت تُعشى لها الأبصار.