فرز يدوي.. أم تحرك للنتائج؟!

TT

الموقف من إعادة الفرز اليدوي لنتائج الانتخابات في محافظة بغداد، التي تحظى بأهمية، من ناحية لكونها تمثل نحو ربع الناخبين والمقاعد، ومن ناحية ثانية لأن ثبوت تلاعب مهم بالنتائج سيحفز الدعوات لإعادته في محافظات أخرى، الموقف من ذلك تمثل عند كتل بازدواجية صارخة، فمثلا، كتلة مستفيدة من الانتخابات، تعيش مشاعر انتفاخية، رغم أنها لم تتقدم كثيرا عن حصتها في مجلس النواب السابق، بل إن حصتها ظلت نفسها والزيادة التي حصلت عليها تأتت من نسبتها في الزيادة في أعضاء مجلس النواب، وبالتالي ليس هناك من تصاعد في تمثيلها، ولكنها لا تلتفت لذلك وسط مشاعر الزهو في سحق حلفائها، وتصدرها لساحتها، عموما الأطراف المستفيدة من الانتخابات والمتخوفة من إعادة الفرز، هي تلك التي كانت لها مناطق انتخابية مغلقة عليها، إذ إن مناطق التنافس وغير محسومة الولاء أوجدت آليات رقابة بين المتنافسين، في حين أن الشك ينبعث من المناطق المغلقة لكتلة أو لمكون، التي شهدت تضخيما في المشاركة المؤيدة وتخريبا وإبطالا للاستمارات المصوتة لمنافسيها، هذه تمت في ساعات ما قبل الإغلاق وبالتالي لن تنفع إعادة الفرز في تعقب ذلك، إلا في حالات تعجل وعدم احترافية مرتكبي الخروقات وهي الوثائق والأدلة التي استندت إليها الهيئة القضائية في قرارها بإعادة الفرز يدويا، تماشيا مع الشفافية، ولكي لا توضع في خانة الريب، رحبت هذه الكتل بالعد اليدوي، وبقرار القضاء، ولكن باشتراط أن لا تتغير النتائج! ومهددة بكون ذلك سيفضي للفوضى، إذن ما جدوى إعادة الفرز إذا كان تغير النتائج مرفوضا سلفا وفقا لهذه الكتل المرحبة!

مع ذلك من غير المتوقع أن يكون هناك تغيير واسع في النتائج، إلا أنه ولتقاربها فإن تحرك بضعة مقاعد من كفة إلى أخرى سينعكس على صدارة المشهد، لكن سيظل ذلك دون منحه قدرة يد مفتوحة أو تفوقا في رسم التحالفات، إلا أن لإعادة الفرز تأثيرها الآخر بتأخير إقرار النتائج وتأخير دعوة البرلمان للانعقاد وبالتالي الشروع بمارثون التكليفات، إنه أعطى فسحة إضافية للقوى السياسية للاستمرار في مسلسل المساومات الذي أتقنته، عبر إيصال الأمور إلى حافة الأزمة لتعظيم المكاسب ومن خلال دفع الحل، كما اعتدنا في كل الاستحقاقات السياسية والخوانق، إلى الربع ساعة الأخيرة.

بعكس ما يعرف عن عموم الانتخابات في العالم حيث الغاية منها تحقيق طموحات الناخب وإنجاز الوعود التي جسدت في البرنامج الانتخابي الذي صوت له وفضله، ولكن عندنا يبدو أن مهمة الناخب تنتهي عند منح صوته، فتقع مخاوف روسو الذي رفض الديمقراطية التمثيلية (النيابية) وفضل عليها الديمقراطية المباشرة أي بالرجوع إلى الشعب في القضايا لكونه اعتبر أنه في اليوم الذي تمنح فيه صوتك فإنك تفقده، بعد التصويت انتقل التفويض عندنا إلى السياسيين والنواب الذين في أحسن الأحوال ما لم يتصفوا بالفجاجة وبقي ضميرهم يحتاج إلى إيهام، فإنهم يماهون بين ذواتهم والوطن، فتصبح المصالح الذاتية مصالح وطنية، لذا فإن المفارقة الفعلية هي فيما بين رغبة الشعب بإيجاد حكومة فاعلة ورشيدة تتقدم وترتقي بمتطلباتهم وفاعلين سياسيين يريدون أن يكونوا كلهم في مركز صنع القرار، وبشقه الحكومي تحديدا.

رغم أن فرشة الأصوات توزعت بشكل متقارب على أربع كتل، مما يعطي نظريا هامش مناورة كبيرا في التحالفات ولا يجعل شكلها مرتهنا لابتزاز جهة معينة أو لسقوف عالية في المطالب تضعها جهة أخرى، إلا أن طبيعة الوضع العراقي ومحدداته أولا، وتوزع الأصوات ثانيا بعدم إظهار كتلة أو كتلتين قادرتين على أن تشكل الحكومة بمفردها، ولعدم وجود كتل عابرة للمكونات فعليا بحيث تشكل حكومة دون أن تتهم بإقصاء مكون أو قصر تمثيلها لمجموعة عرقية أو طائفية دون أخرى ثالثا، يجعل الوضع العراقي مقيدا وغير قابل للفكاك وأسير معادلتين، الأولى أن تتوافر لتشكيل الحكومة الأغلبية العددية التي نص عليها نصاب اختيار المناصب الرئيسية (رئيس البرلمان، رئيس الجمهورية، رئيس الحكومة) ومن ثم تشكيل الحكومة، والثانية أن تتوازى معها معادلة التوافق أي أن تمثل المكونات بشكل أساسي، خصوصا وأن نتائج الانتخابات أنتجت كتلا سياسية باتت تمثل بشكل مهيمن ومحتكر تقريبا لمكونات، وبالتالي إقصاؤها وعدم إشراكها يعني إقصاء وتهميش مكون، والمكون الذي سيهمش لن يلجأ إلى المعارضة الفاعلة والسلمية كما في الدول المستقرة بل ولا حتى يكتفي بوضع عصي في سير الحكومة بل إلى وضع الألغام في طريقها، ولن يهدد بالعودة إلى مقاعد المعارضة بل إلى صفوف «المقاومة».

من هنا يعود الخيار هو الاضطرار للمفاضلة بين حكومة فاعلة وقوية لها معارضة مصوبة وفعالة ورقيبة لكن مع استقرار مهدد، أو بإشراك الجميع وإرضائهم وهو ما سيكون على حساب القدرة والإنجاز ولكنه سيشتري رضا الكبار وسكوتهم وبالتالي يؤمن استقرارا قلقا ولكن مع مراوحة في الشلل، لذا فإن المعادلة الصعبة التي ما زال العراق يبدو بعيدا عن تحقيقها هي في إيجاد بيئة سياسية ونظام يحتاجه من أجل إدارة الانقسامات العرقية والمذهبية فيه، ويوفر ضمان تمثيل مناسب لكل المجموعات العرقية والدينية ويقرن ذلك مع خلق الظروف الملائمة لحكم فاعل ورشيد، أو بعبارة أخرى تشكيل ائتلاف حكومي وطني مستقر يحكم البلاد بفاعلية، هذا هو الاختيار الأصعب، الذي على القيادات السياسية أن تنجح في اختبار إنتاجه وسجلها - بأسف - للسنين الماضية لا يساعد على التفاؤل في ذلك.