الطبقة الوسطى لم يعد لها وجود

TT

في يومين متعاقبين على صفحات الرأي، انشغل ثلاثة من الكتاب بقضايا الثقافة والمثقفين، كل من زاويته أو نافذته التي يرى منها الثقافة في العالم العربي، الأولان صديقان وهما الدكتور مأمون فندي، ومشاري الذايدي، والثالث ينتمي إلى ذلك النوع من الكتاب الذين تتمنى أن تكون صديقا لهم وهو الأستاذ غسان الإمام. الثلاثة نزلوا في خان واحد بعد رحلة طويلة هو خان الثقافة والسياسة والمجتمع، وكان الدكتور فندي غاضبا أشد الغضب من الطبقة الوسطى (في مصر طبعا.. حاتكون فين تاني؟) بل لم يتورع عن شتمها، وعجز عن كظم غيظه منها بعد أن اكتشف أنها لم تعد تعطي المجتمع شيئا لتوقفها عن القيام بدورها في تحريك عجلة التاريخ إلى الأمام، أما الأستاذ غسان فقد تناول الفروق بين ثقافة النخبة والثقافة الشعبية بعد أن وضع الأولى في مواجهة الثانية وتأثير ذلك على المجتمعات العربية. وهو ما تناوله أيضا صديقي مشاري الذي في متابعاته لحركة المثقفين في الخليج فوجئ بشاعر شعبي خليجي شاب يصرح في حوار صحافي بأنه لا يحب الثقافة والمثقفين وذلك لأن الثقافة ضد «المرجلة» وهو ما نفهم منه أنه مع المرجلة وأنه يخشى الثقافة لأنها من الممكن أن تفقده رجولته، الواقع أنني استمعت لعشرات وربما مئات الصفات السيئة التي قيلت عن الثقافة والمثقفين، وليس من بينها هذه الصفة وهو ما يؤكد حقا أنه شاعر شعبي مجدد، غير أنني أنصحه بقراءة كتاب واحد هو «الجمهورية» لأفلاطون لكي يعرف أن الهدف النهائي للفلسفة هو الرجولة كما قال أفلاطون نقلا عن سقراط بكل وضوح، الفلسفة بوصفها أعلى درجات الثقافة هي حب الحكمة وليس الحكمة في حد ذاتها، فأنا أعرف حكماء أوغادا كثيرين ينطقون كلمات كثيرة مشبعة بقدر من الحكمة تدعو للإعجاب ويكون الهدف منها أن يسوقوا جمهورهم إلى الضياع. أصدقائي الثلاثة إذن يناقشون - حتى لو لم يتنبهوا لذلك - قضية الحب ودوره في دفع حركة البشر إلى الأمام. بالتأكيد لا وجود في تراثنا الثقافي لكلمة مفكر، الناس جميعا يفكرون وقادرون على التفكير لماذا إذن استخدام هذه الكلمة الغريبة على تراثنا؟

السائل معه حق بعد أن جعل الماضي بكل مفرداته مرجعية له، مرجعية قوية صلبة غير قابلة للاختراق، غير أني أراهن على أن السائل يستفيد بشكل عملى من كل إنجازات العلم المبنية على إنجازات المفكرين، غير أنه دفاعا عن تخلفه وإحساسه بالعجز والضآلة، يريد منع الآخرين من التقدم. نحن نفكر ليس لأننا نجيد التفكير بل لأننا نشعر بالحب. وما لم تتحول الأفكار، أية أفكار، إلى أفعال تجعل حياة الناس على الأرض أكثر سهولة وإمتاعا للبشر، فهي أفكار لا أحد في حاجة إليها. أعترف بأنني لست مفكرا ولا أطمع في أن أكون، أنا عاشق فقط، أنا محب، ووظيفتي هي نفسها وظيفة الفن في كل عصر وهي تحريض الناس على حب الحياة والدفاع عنها، لسبب بسيط وواضح هو أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق لنا على الأرض حياة غيرها. والثقافة الشعبية ليست هي الانفعالات السائدة في الأسواق، ولا حتى هي الآيديولوجيا التي تبثها أجهزة الإعلام من خلال الكاميرات، الثقافة الشعبية هي أجمل وأهم مما تتصور، هل تتصور الحضارة العربية بغير حواديتها القديمة، هل تتصورها بغير حب عنتر لعبلة، بغير ألف ليلة وليلة، من أين تعلمنا نحن الحب والرجولة والوفاء والتضحية والرقة والتهذيب؟ هل تستطيع أن تـتصور ثقافة هذا العالم بغير الإلياذة والأوديسة؟

أما الطبقة الوسطى فهي موجودة فقط في كتب العلوم السياسية وفي ذهن العجائز من أمثالي ولا توجد طريقة على الأرض لاستعادتها لكي تواصل دورها في إمداد المجتمع بالأفكار والفن والحكمة والنموذج الذي تتطلع إليه بقية الطبقات. كل ما كنا نحلم به أنا وأصدقائي الأطفال في دمياط هو أن نلتحق بالطبقة الوسطى تلك الطبقة المحترمة المستورة النظيفة التي تسكن في أحياء المدن الراقية، وكان الطريق إليها هو الالتحاق بالجامعة، لا يوجد طريق آخر.. ستكون مهندسا، طبيبا، محاميا، ضابطا، قاضيا، مدرسا، أستاذا في الجامعة، موظفا في الحكومة في أعلى درجاتها، ستبدأ بالدرجة السادسة وتجتاز بقية الدرجات لكي تكون مديرا عاما ويا له من منصب، هناك مناصب عليا ليست ثابتة في مكانها بل تتغير بوصول الأحزاب إلى الحكم، أما أنت فلا خوف عليك، كان هناك ما يسمى مجلس عموم مديري القطر، هؤلاء يعملون فقط ولا شأن لهم بالسياسة، مرتبك سيكفيك ومن السهل عليك أن تدخر جزءا منه وهو ما يشعرك بالكبرياء، التعاسة لن تعرف طريقها إليك، كل ما ستحتاجه ستحصل عليه، في أيام كثيرة ستتناول عشاءك مع زوجتك في مطعم خارج البيت، كما أنك ستحصل على حقك من الموسيقى والإبداع الفني، هناك أنور وجدي وإسماعيل ياسين وشكوكو وهناك أيضا الريحاني ويوسف وهبي، هناك أم كلثوم وهناك أيضا السنباطي والقصبجي وزكريا أحمد.. اغفر لي، لن أقوم بكتابة بقية أسماء المبدعين لكي لا تلتهم بقية صفحات هذه الجريدة بعد إضافة بعض الملاحق إليها..

كل ما هو حولك يشعرك بالرغبة في حب الحياة واحترامها، وخاصة عندما تنظر من بعيد للأرستقراطية المصرية من الأعيان والبكوات والباشوات الذين يشجعون الإبداع والمبدعين ويقتنون اللوحات لكبار الرسامين في العالم كله، ثم،،، هوب.. ضاع كل ذلك، تغيرت تركيبة المجتمع ببطء ولكن بحسم. لم تعد هناك أهمية للحرفة، الصانع الذي كان يتقن صنعته ليشعر أنه قرين لك، اكتشف أنه يكسب أكثر إذا انضم للاتحاد الاشتراكي وأصبح مسؤولا عن لجنة من لجانه أو أمانة من أماناته، الصدق والأمانة والحرفة والإخلاص للعمل باتت جميعا أثرا بعد عين، بدأت سيادتك تكتشف أن مرتبك لم يعد يكفيك فمددت يدك للآخرين بعد أن اكتشفت أن مصائر مشاريعهم في يدك أنت، تستطيع أن تمررها وأن تعطلها، وانتقلت بعدها إلى المال العام تغترف منه، وبدأ اسمك يظهر في صفحة الحوادث والسوارات الحديدية تحيط بمعصميك. هكذا ضاعت الطبقة الوسطى وحلت محلها طبقة من الخبراء في فرع واحد من فروع المعرفة وهو كيف تؤكل الكتف، حتى وصل الأمر بملايين المصريين الآن إلى أنهم يمشون في الشارع بغير أكتاف.

لا أمل في استعادة الطبقة الوسطى في مصر لأنه لا أمل في استعادة زمنها، ولا فائدة من شتيمتها، كما أن الضرب في الميت حرام، الأمل الوحيد هو احترام حقوق الإنسان الفرد واحترام القانون بحيث لا يوجد من هو أكبر منه، لا بد من توفير أعلى درجة حماية للفرد لكي يعمل وينجز مشمولا بحماية القانون.

الأصدقاء الثلاثة جعلوا «العقل» محطة القيام بالنسبة لأفكارهم، ناقشوا ما يحدث على ضوء آليات العقل، أما أنا فثقتي بالعقل قليلة، أنا أنطلق دائما في رحلتي من «النفس».. الحرية والديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان لن يحققها أصحاب العقول الكبيرة، بل أصحاب النفوس الكبيرة والقلوب الممتلئة حبا.