البرادعي ومطار القاهرة

TT

ما دخل الدكتور محمد البرادعي بمطار القاهرة؟ في هذا المقال سأحاول أن أقدم رؤية من مطار القاهرة لتفسير ظاهرة انخراط الدكتور محمد البرادعي، الرئيس السابق لوكالة الطاقة الذرية، في السياسة المصرية. قد تكون رؤية انطباعية فيها بعض السذاجة، لكنها تكشف لنا المناطق المعتمة في المشهد السياسي المصري، تلك الزاوية في مرآة السيارة التي لا ترى فيها من خلفك أو ما يسميه الغربيون بتلك البقعة العمياء أو السوداء التي تتعذر فيها الرؤية. أزعم أن الرؤية من المطار تكشف تلك البقعة العمياء في حالة الظاهرة السياسية التي يمثلها الدكتور البرادعي أو حتى تلك التي كان يمثلها الدكتور أحمد زويل منذ عامين، والتي خفت بريقها مؤخرا.

لغير المصريين، المشهد في مطار القاهرة مثير يدعو إلى التفكير وهو أداة تفسير مهمة لكل ما هو مصري، لو دقق الفرد منا فيما حوله. عندما تصل إلى مطار القاهرة وبمجرد أن تخرج بحقائبك تجد نفسك أمام حالة سائقي التاكسي، ومن دون مقدمات يتجمع حولك بعض السائقين طالبين توصيلك إلى المكان الذي تريده، وقبل أن تصل إلى قرار في أي تاكسي تركب أو مع أي سائق، تجد حقائبك قد حملت في واحدة من العربات واقتادك السائق إلى الداخل، دونما اتفاق مسبق أو حتى معرفة إلى أين سيأخذك، فكل هذا سنتحدث عنه في التاكسي: أين ذاهب أنت، وكم الأجر، وهل تريد التاكسي معك طوال فترة الإقامة، وهل تريد ترفيها؟ كل هذه الأمور ستناقش ونحن في الطريق، ونحن في التاكسي، ليس قبل الركوب، كما يحدث في مطار هيثرو في لندن مثلا. ليس مهماً وجهتك، أو إلى أين أنت ذاهب: المهم أنك تركب، «ونتفاهم بعدين».

سائق التاكسي القاهري لماح يعرف القادمين من وجوههم، الوجه التائه أو العيون «المسهمة»، هي من علامات السائح أو القادم إلى القاهرة، إما لا أحد في انتظاره، أو أنه ليس لديه برنامج سياحي واضح، وهذا أمر ينطبق على أبناء البلد وعلى السائح العربي، أما الأجانب فحاجز اللغة يكفي لإحباط عمليات النصب والاحتيال، لأن السائق يفقد قدرته على إقناع الزبون لعدم إلمامه بالمفردات.

المهم هو أنه في حالة القادم من الخليج من أبناء البلد أو السائح الخليجي يكون عرض التوصيلة رخيصا نسبيا في البداية، لأن الأجرة الخاصة بالتاكسي ما هي إلا مفتاح لبرنامج أكبر وخدمات أهم، حيث يحصل سائق التاكسي مثلا على عمولة من الفندق الذي يقنع الزبون بالذهاب إليه، أو يأخذ عمولة من صاحب الشقة المفروشة التي سينزل بها الضيف الخليجي. وإيجار الشقة في حد ذاته قد يكون مغريا من حيث رخص السعر، ولكن الخدمات المصاحبة التي يحملها صاحب الشقة على الزبون هي التي تقصم ظهره، وتجعل إقامته في القاهرة أغلى من أهم الفنادق ذات النجوم الخمس في أهم عواصم الغرب.

ظني أن هذا هو ما حدث مع الدكتور البرادعي ومع الدكتور أحمد زويل من قبله، استقبلهما السائقون في المطار ببساطة لأنه لم يكن عند أي منهما برنامج سياحي واضح كالوفود الأجنبية، وفي حالة الدكتور البرادعي لم يكن لديه برنامج سياسي، كما قال هو صراحة في إحدى مقابلاته مع المثقفين المصريين في بيته. البرادعي ركب تاكسي المعارضة، وهو رجل فقط يريد أن يصل من المطار إلى بيته، ولكن في سيارة المعارضة عرضت عليه قائمة خيارات لم يكن قادرا على مقاومة إغراءاتها، فكلنا نقبل بالكثير من طلبات سائق التاكسي وعروضه، مرة بدافع الشفقة والإحساس بالذنب لأننا قادمون من بلاد غنية، فمثلا إذا كنت أعطي سائق التاكسي من مطار هيثرو إلى شقتي خمسين جنيها إسترلينيا، أي خمسمائة جنيه مصري، فلماذا لا أعطي السائق الغلبان مائتي جنيه أو ثلاثمائة، نحن لا نأتي إلى القاهرة كل يوم، فلماذا لا نكون كرماء مع من هم أقل منا حظا؟

البرادعي ركب مع السائقين، وكلٌ يريد له وجهة، وكلٌ يصمم له برنامجا سياحيا متكاملا، رغم أن البرادعي في كل همه لم يكن يريد إلا الوصول إلى بيته، وبالمعنى السياسي جاء البرادعي، حسب قوله، للإسهام في عملية الإصلاح، ولم يأت مرشحا للرئاسة، وذلك ببساطة لأن قواعد اللعبة القائمة لا تسمح له بالترشح، ولكن سائق التاكسي أقنعه أن ذلك ممكن، وأنه وأصدقاءه قادرون على فلسفة الوضع بطريقة تجعل ذلك ممكنا. مثل هذه الحوارات التي تبدو عبثية في الهواء الطلق أو عندما تكون في بيتك وعلى راحتك، تبدو منطقية في الأماكن المغلقة، في التاكسي، حيث تكون أنت محاصرا في علبة ضيقة، ولا فرار من ذلك السرد الغرائبي الذي يصفه لك السائق، سرد يبدو غريبا للوهلة الأولى ولكنه سرعان ما يصبح منطقيا بالتكرار، وبحكم طول المسافة واختناقات المرور.

ذكر لي صديق أنه عندما عاد إلى القاهرة من الولايات المتحدة الأميركية بعد نهاية الدكتوراه، أراد أن يكون له مسكن في القاهرة، شقة، وساعتها جلس مع مجموعة من الأصدقاء، فعرض عليه أحدهم شقة في الدور الأرضي في المعادي، وطلب منه أيضا أن يستثمر بعض ما لديه في شراء سيارة. ولما سأله عن سبب اختيار الدور الأرضي، وسبب رغبته في أن يشترى سيارة رغم أنه يقيم في الغرب، قال: «شوف يا سيدي، أنت لا تحتاج إلى الشقة كلها، لذا يمكننا أن نقلب الأوضة اللي ع الناصية أجزخانة (صيدلية)، ولما تسافر نقلب السيارة الملاكي تاكسي، وبذلك نحقق لك أرباحا في غيابك». ومن يوم سماعي لهذه القصة وأنا أقول لأصدقائي أحيانا أن الأساس في فهم السياسة المصرية هو «أن تفهم كيف تقلب الأوضة إلى أجزخانة والسيارة إلى تاكسي».

سرد لي صديق قصة رجل مغترب آخر سرقت منه غرفة من غرف شقته وهو مسافر. قال: لك أن تتخيل أن جار هذا الرجل المسافر الذي يسكن الشقة المجاورة قد قرر أن يضم واحدة من غرف شقة جاره إلى شقته. ولما عاد صاحبنا من الخليج، وجد أن شقته ذات الثلاث غرف أصبحت شقة بغرفتين فقط. وحتى الآن هو في محاكم وإجراءات لإثبات أن الغرفة التي في شقة جاره، هي في الأساس غرفته. النقطة الأساسية هنا، هو أن هناك أمورا تبدو عبثية في الخارج، ولكنها حقائق في القاهرة.

الدكتور البرادعي ركب مع سائقين كثر، لهم أجندات مختلفة يسوقون له برنامجا سياحيا ليس على باله أو على خاطره، فقط الرجل يريد أن يصل إلى بيته ويريد أن يجري بعض الإصلاحات، لكنه لا يريد أن يهدم البيت ويبني غيره، وفي فترة البناء يسكن في فندق أو في شقة مفروشة. أتمنى ألا يسيء البعض استخدامي لمهنة السائق كاستعارة أو صورة لتقريب الفكرة إلى القارئ، فلا عيب في تشبيه من أخذوا البرادعي من المطار في حافلة وجهة قصدها الرئاسة، بالسائقين، فليس الهدف من المقال الإساءة إلى أحد، بقدر ما هو رصد للظاهرة من منظور ظروف مسافر ومن منظور ما نشاهده في المطارات، أمور نشاهدها كل يوم، ولا نحاول التفكر في معانيها الأوسع والأشمل. البرادعي ركب السيارة كما ركبها أحمد زويل من قبل، واستمع إلى أحاديث الوهم، وصدقها أو تظاهر بتصديقها، قبل بالشقة الرخيصة، وربما مثلي قبل بشراء شقة يمكن أن تقلب واحدة من غرفها صيدلية، وقد يكتشف في النهاية أن شقته التي اشتراها «فيها أوضة غايبة».

الدكتور زويل فطن إلى الملعوب بعد مدة، وظني أن البرادعي سيصل إلى النتيجة نفسها، فهو رجل، من وجهة نظري، يريد برنامجه هو، يريد الإصلاح، ولكنه في تقديري لا يريد الرئاسة، وقد أكون مخطئا تماما فيما ذهبت إليه، ولكنها ملاحظات أكتبها من القاهرة، فيها رائحة القاهرة، وزحامها، وربما فيها ضبابية تحليلاتها. البرادعي شخصية مهمة، ويجب أن نستمع إلى ما يقول، ولكن بعد أن ينزل من التاكسي، وبعد أن ينفض عنه السائقون، أو حتى مثل أقاربي في الصعيد القادمين من الخليج بعد أن تنتهي هداياهم، لنرى كيف يفكرون، وكيف يعاملهم الأهل والأقارب.