من يهب يملك

TT

تساءل بعض الزملاء عن سبب تكراري الكتابة حول موضوع الاستثمار في التعليم، وكأن الأرض انشقت وخرج المصطلح عليهم فجأة، وأصبح لزاما عليهم الإيمان به والعمل عليه. يقول الزملاء: «تريثي، ودعي الأمر للزمن».

الحقيقة أن الأمر جله كان متروكا للزمن، حتى نسي الزمن أننا تركنا عنده شيئا.. تفرض علينا الفطنة وحسن التقدير أن نسابق الوقت لتحقيق ما نصبو إليه. صحيح أن المبادرين هم القلة وأن المتفرجين هم الكثرة، ولكن انظروا من حولكم، القلة هي الفئة النخبوية التي تقود العالم، ولو استخدم كل مجتمع 1% من النخبة المبادرة القادرة والقائدة، لتغير وجه العالم كما تغيرت سنغافورة على يد رجل مثل لي كوان يو، مؤسس سنغافورة الحديثة، الرجل الذي تبنى نظرية النخبة وعمل عليها فصنع دولة متقدمة.

لا تطيعوا زملائي وتتريثوا، فلولا الخطوات الحثيثة لما سمي التقدم تقدما، لاكتفينا بأن سميناه نجاحا، وليست كل النجاحات تعني خطوة إلى الأمام.

في عالم الاقتصاد، رجال وسيدات أعمال حققوا نجاحات مذهلة، ولكنها غير معلنة للمجتمع، وهذا خطأ كبير، فقصص النجاح من أكثر المحفزات المعنوية على العمل، ولكن عدم تدوينها أو الإعلان عنها تجعل هذه التجارب حبيسة أهلها، وتحرم هؤلاء ميزة التفاعل والمشاركة في مراحل بناء أو نمو أو تطور مؤسسات المجتمع المختلفة، وليس أسوأ من الفرد الناجح في عمله المنعزل عن مجتمعه، الغريب بين أهله، الذي ابتعد عن همومهم واهتماماتهم فبعُد عن وجدانهم. لقد ظللنا طويلا ننادي بتغيير ثقافة العمل الخيري التقليدية، التي كانت تركز على جوانب محددة، غافلة عن أخرى، فبناء مشفى أو مدرسة أو دعم مشروع بحثي لا يقل قيمة في ميزان الخير عن بناء مسجد، فأحب العباد إلى الله أنفعهم للناس، ولكن أحيانا تغيير المفاهيم في أذهان الناس بصعوبة اقتلاع الضرس.

خير مثال على ذلك ما جاء في الفيلم الوثائقي الذي عرضته قناة «العربية» حول «هجرة الحضارم»، وهي سلسلة وثائقية جميلة جدا، تحدثت عن حقبة تاريخية مهمة أثرت وبشكل مباشر على الوضع الاقتصادي للمملكة العربية السعودية، وبخاصة في غرب البلاد، حيث هاجر الكثير من أهل منطقة حضرموت (تحديدا وادي دوعن، المعروف بمصنع الرجال)، فاستقروا وباشروا تجارتهم في المملكة في مجال العقارات وبيع السلع والصناعة، وأقاموا مشروعات ضخمة في شتى المناحي، واكتسبوا نفوذا اقتصاديا واجتماعيا كبيرا مدفوعين بدعم ملوك السعودية منذ عهد الملك عبد العزيز - رحمه الله - في فترة الهجرة الأولى للحضارم، تلتها الهجرة الثانية في فترة الستينات التي كانت هربا من الحكم الاشتراكي ذي الآيديولوجيا الشيوعية لمدينة عدن، الذي كان سدا منيعا في وجه أصحاب الفكر الاقتصادي التنموي. هذه الشخصيات الحضرمية أثرت المجتمع السعودي بخبرتها الواسعة في دهاليز التجارة والمعاملات المالية، واستفاد من خبرتها جيل من رواد الاقتصاد الذين نراهم اليوم أسماء لامعة في عالم المال والأعمال. لم يغفل المهاجرون الحضارمة الجانب الخيري في أعمالهم، فشاركوا في بناء مؤسسات ومنافع عامة كثيرة في المملكة، فكانوا مواطنين سعوديين صالحين، وأذكر من مواقفهم المحمودة التي لن ينساها التاريخ، خلال حرب عام 1973م حين قدموا أبناءهم وأموالهم للملك فيصل - رحمة الله عليه - وفاء منهم، وتمثيلا نموذجيا لوطنيتهم. كما لم يكونوا كافّين أيديهم الخيرة عن أرضهم الأم، حضرموت، حيث احتضنوا واستضافوا أبناء جلدتهم المهاجرين إليهم، حتى توحدت اليمن فاستطاع التجار الحضارم المشاركة في مشروعات التنمية في اليمن بشكل مباشر.

وأخيار وادي دوعن كثيرون، أذكر أبرزهم الشيخ محمد بن حسين العمودي، ثاني أغنى رجال العرب بحسب تصنيف مجلة فوربس لعام 2010م، الشخصية الاقتصادية النافذة في مجال الطاقة والتعدين، وأكبر مستثمر أجنبي في دولة السويد. عجبت عندما قرأت سيرته الذاتية كيف يملك هذا الرجل قصة نجاح متسلسلة من الرقم واحد وحتى العشرة، مشاها الشيخ العمودي بتؤدة منزلة منزلة، مرورا بالكسور العشرية، وكيف أن هذه الحياة الحافلة لم تنسه بصمة الخير في كل مكان يكون له فيه موطئ عمل.

لماذا لم يغلق العمودي خزائنه على ما فيها ويضرب عن المجتمع الإحسان صفحا؟

هذا سؤال مشروع، فهناك من رجال الأعمال من احتوته هذه الرغبة. السبب أن الشيخ العمودي احتاجت نفسه أن يشارك أهله ومواطنيه همومهم، وأن يكون جزءا منهم، لأن الشعور بالغربة وسط الأهل شعور قاتل، يريد أن يغتسل كل يوم بإحساس الطهارة من الشح.

وعلى الرغم من أن العمودي يتنازعه أحبابه في السعودية واليمن، ولكنه ما فتئ يرضيهم، من خور المُكلا الخلاّب، ومعمل تكرير السكر وبناء المدارس في اليمن، وتمويل ابتعاث الكثير من الطلاب اليمنيين للدراسة في الخارج، إلى قرابة نصف مليار ريال لجامعة الملك سعود، لبناء برجين لصالح برنامج أوقاف الجامعة، ودعم برنامج كراسي البحث في موضوعات بحثية استراتيجية كالمياه والبترول، ومساهمة فاعلة لدعم معهد الملك عبد الله لتقنية النانو. هذه الأعمال النبيلة استحق عليها الشيخ العمودي لقب (الرجل المُبارك) الذي أطلقه عليه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، ولا عز مثل عز لقب يخرج من ولي أمر كريم إلى مواطن كريم، فمن يهب يملك.. العمودي وهب المال وحسن الخُلق، فملك الأجر وحُب الخَلق. فإذا لم تناد الأقلام مثل الشيخ العمودي للاستمرار في دعم المجتمع الذي يضم أهله وأحبابه وقومه، في مشاريع التعليم والصحة والتكافل الاجتماعي؟ فليرفع الإعلام قلمه ويعتكف.

* أكاديمية سعودية - جامعة الملك سعود

[email protected]