الصفقات الفوقية تصب في اتجاه إنهاء «اتفاق الطائف»

TT

«هناك فترات في عالم السياسة يتوجّب على المرء فيها أن يكون مع الحق.. وأن يخسر»

(جون كينيث غالبريث)

مع دخول لبنان مرحلة «اللا سياسة» يجد الراصد السياسي نفسه أمام خيارين: الأول إبداء القرف من المستوى الذي بلغه واقع الحراك العام في البلاد، وبالتالي العزوف نهائيا عن تحرّي أي منطق أو التزام في ما يحصل. والثاني، كظم الغيظ لمحاولة القراءة بين سطور المواقف المعلنة - والمضمرة - لعل وعسى.

أصلا، دخول لبنان هذه المرحلة في هذه المرة بالذات ليس مسؤولية اللبنانيين وحدهم.

نعم هذه المرة هناك متغيرات أكبر منهم بكثير، خلفها جهات هي أيضا أكبر منهم بكثير، وهي، بطبيعة الحال، أقل حرصا منهم على مصالحهم والتزاما بها، وأكثر استخفافا بهم وببلدهم، ابتداءً ببقائه وانتهاء بنظامه السياسي، وهذا إذا قيّض له أن يبقى.. فلا يذهب «فرق عملة»، أو كما يقول إخوتنا المصريون مجرد «فكّة».

هذه المرة «الآخرون» ضالعون تماما في مرحلة «اللا سياسة»، حيث يُحظر فعليا البحث الجدي في أي قضية سياسية حقيقية، ويُكتفى بـ«تصريف الأعمال» وتقطيع الوقت. وهذا بخلاف الفترات السابقة من تاريخ لبنان عندما دأب اللبنانيون على استخدام الضغوط الخارجية «شماعة» يعلقون عليها إخفاقاتهم وهروبهم الدائم من تحمل تبعات أعمالهم وحساباتهم.

ولكن هذا حتما لا ينفي استمرار عادة تطوع بعض اللبنانيين، سواء لحسابات طائفية، أو طموحات شخصية مجنونة، أو دوافع كيدية تتستر بعناوين وشعارات كبيرة نبيلة، لخدمة مخططات خارج نطاق سيطرتهم... وفوق طاقة الصيغة التوافقية الهشة التي بني عليها كيانهم.

وسط هذه المرحلة المقرفة. يمكن التوقف عند محطتين مهمتين في تاريخ لبنان قد تكون الصفقات الدولية التي تعقد فوق رؤوس اللبنانيين قررت التضحية بهما نهائيا، على الرغم من أن كثيرين منهم ما زالوا مقتنعين أن لا قيامة لبلدهم من دونهما.

المحطة الأولى هي «اتفاق الطائف»، الذي أسس «الجمهورية الثانية» عام 1989 بعد الحرب الأهلية التي قضت على «جمهورية الاستقلال» المولودة عام 1943. وكان «اتفاق الطائف» وثيقة دستورية أعادت التأكيد على ثوابت الكيان اللبناني ولكن مع إعادة رسم معادلاته ومؤسساته الداخلية على أساس واقعي أكثر إنصافا وعدالة، بحيث شدد على المساواة بين الفريقين المسلم والمسيحي ومبدأ «المناصفة» وإعادة النظر في بعض صلاحيات الرئاسة الأولى لجعلها في مجلس الوزراء مجتمعا (فيه مناصفة مسلمة مسيحية).

يومذاك ما كان سهلا إقناع الشارع المسيحي بالتخلي عن «امتيازات» موروثة من عهد الانتداب الفرنسي، لولا بصيرة زعيمين مسيحيين لا شك في «مسيحيتهما» هما البطريرك الماروني نصر الله صفير والدكتور سمير جعجع قائد «القوات اللبنانية» أقوى الفصائل المسيحية المقاتلة. وفعلا وقفت في الشارع قيادات ديماغوجية متعصبة لترفض الاتفاق وتتآمر عليه وتسعى - ولا تزال - لإسقاطه. وللأسف، تمكنت هذه القيادات من كسب تعاطف واسع عند غلاة التعصب لرفضها ما اعتبرته «التفريط في الامتيازات والصلاحيات الرئاسية للمسلمين». وللأسف، أيضا، استطاعت الاحتفاظ بقسم لا بأس به منه حتى الآن رغم انقلابها على مزايداتها وانخراطها ذيليا في «تفاهم» مع مَن كانت تعتبرهم أعداء السيادة وتحرض عليهم القوى الغربية علنا.

لولا البطريرك صفير والدكتور جعجع لما كان «اتفاق الطائف». ولولا استمرار دعمهما له لما كان الاتفاق حظي بالفهم العاقل لمنافعه للمسيحيين اللبنانيين المتراجع حجمهم السكاني باطراد. وبما أن «اتفاق الطائف» لا يزال الركيزة الأولى لبناء لبنان، كان من البديهي ضرب القوة المسيحية الداعمة له. وهذا ما يفسر اليوم - كما في الأمس - استهداف صفير وجعجع، والإصرار على الاستفراد بالثاني والسعي لتخوينه تمهيدا لضربه.

أما المحطة الثانية، فهي نشوء تجمع «14 آذار»، وهو تجمع لم يكن ضد سورية من حيث هي سورية الهوية العربية والعمق الطبيعي للبنان، بقدر ما كان ضد ممارسات أمنية غاشمة أساءت إلى سورية وإلى كل من ارتبط بها وبخطها السياسي على الساحة اللبنانية. بل إنه ولد في الأساس كرد فعل على عرض عضلات شارعي بعنوان «شكرا سورية» ملؤه التحدي في يوم 8 مارس (آذار)، أي قبل أسبوع من الرد المقابل الذي تجسد في «14 آذار».

ولم يكن «14 آذار» حزبا له آيديولوجية واحدة، ولا كان اختزالا عجولا لقناعات مكوناته الحزبية والحركية والشعبية وممارساتها، بل كان «مظلة» واسعة اتفق كل من احتضنته على قواسم مشتركة، في مقدمها قيام دولة مؤسسات بعيدة عن الهيمنة الأمنية، يعيش فيها الجميع متساوين في الحقوق والواجبات، ضمن نظام ديمقراطي وفق دستور «اتفاق الطائف».

وبما أن تركيبة «14 آذار» كانت أقرب إلى فكرة «الملتقى» منها إلى بنية «الحزب الواحد» أو «التحالف المفضي إلى الاندماج والتماهي»، جاء تركيب الأمانة العامة لـ«14 آذار» صيغة عقلانية صبورة تحتوي كل اتجاهات القوى الممثلة في التجمع. واختير لها أمين عام يجسد كل صفات التعقل والاعتدال والمنطق السليم والحرص الصبور على تقريب وجهات النظر. ولهذا السبب، ربما، حرصت بعض القوى التي أساءت منذ البداية فهم طبيعة التجمع، أو تلك التي ارتأت أنه ما عاد يفي بالغرض، على تسديد سهامها إلى الأمانة العامة بصورة مباشرة.. لأنها لا تجرؤ على مهاجمة «14 آذار» كفكرة أو كتجمع، أو انتقاد فريق فيها سجلت عليه تجاوزات بحقها. وهكذا، خرج من الأمانة العامة غير طرف لأسباب أقل ما يقال فيها إنها غير مقنعة.

اليوم، ثمة من هو متحمس لنعي «14 آذار»، سواء لتسديد فاتورة مطلوبة منه، أو تسليف لمواقف آتية، وفي الحالتين يظهر أن هناك مؤامرة تستهدف التجمع التنظيمي والشعبي الذي جاء عام 2005 ليدعم «اتفاق الطائف» ويسعى لتطبيقه، بعدما حكم عليه بنومة أهل الكهف. وهذا ما يفسر الضغوط الشديدة على تيار «المستقبل»، أكبر المكونات ذات قاعدة الدعم المسلمة في «14 آذار»، على التخلي عن «القوات اللبنانية»، في الإطار والسياق ذاتهما، لعزل القوة السياسية المسيحية الأساسية التي دعمت «اتفاق الطائف» ولا تزال.

وهنا، من المفيد الإشارة إلى حقيقة مهمة جدا. فليس كل من يرفض اليوم عزل «القوات اللبنانية» هو من صفوف حلفائها. فعلى مائدة الأمانة العامة لـ«14 آذار» يجلس قياديان، على الأقل، كانا من أبرز قادة منظمة العمل الشيوعي والحزب الشيوعي اللبناني اللذين خاضا الحرب الأهلية اللبنانية ضد «القوات».

إن المسألة المطلوبة - وبالذات - في أوان «اللا سياسة» ليست نكء جراح الماضي واستحضار أحقاده، ولكن النظر بإيجابية إلى مستقبل واضح. ولا أعتقد أن لدى القوى التي تسير اليوم في ركاب مشروع عزل «القوات اللبنانية»، ورئيس هيئتها التنفيذية، أي فكرة عن مستقبل واضح المعالم للبنان.. باستثناء العيش في هاجس الصفقة الأميركية - الإسرائيلية مع «الشيعية السياسية» في منطقة الشرق الأوسط.