حوض النيل: مبادرة واحدة أم مفوضيتان؟

TT

لم يشهد نهر دولي واحد من أنهار العالم أجمع ما شهده نهر النيل من اتفاقات ومذكرات تفاهم وخطابات متبادلة، بدأت منذ اكتشاف منابع النهر واستمرت لما يزيد على القرنين، وغطت مساحة من الزمان كانت معظم دول الحوض ترزح خلالها تحت نير الاستعمار البريطاني والإيطالي والبلجيكي، واستمرت حتى نالت كل دول الحوض استقلالها.. وقد أسفرت هذه المرحلة عن اتفاقيتين يدور حولهما بين الحين والآخر جدل شديد، الأولى اتفاقية عام 1929 بين بريطانيا العظمى كدولة محتلة للسودان وأوغندا وكينيا وتنجانيقا (قبل أن تتحد مع زنزبار وتصبح تنزانيا)، ومصر كدولة حديثة العهد بالاستقلال، وقد نصت هذه الاتفاقية على حظر إقامة أي منشآت في منطقة المنابع يكون من شأنها تقليل الإيراد المائي الذي يصل إلى مصر، أو خفض مناسيب المياه التي تصل إليها. وفي الواقع أن هذا الحظر لم يكن بدافع الحرص على المصالح المصرية بقدر ما كان للتأكيد على وصول المياه بسلاسة ويسر إلى منطقة الدلتا، حيث زراعة القطن عالي الجودة الذي يغذي مصانع الغزل والنسيج في يوركشاير ومانشستر وليفربول، بدليل حرمان منطقة الصعيد في مصر من هذه المياه أيضا. كانت كمية المياه التي يستفاد بها من الجريان السطحي للنهر عند أسوان في ذلك الوقت 52 مليار متر مكعب سنويا، بينما كانت كمية أخرى تصل إلى 32 مليار متر مكعب تنساب دون استخدام إلى البحر المتوسط كل سنة. وكانت الكمية التي يستفاد بها تقسم بين مصر والسودان بواقع 48 مليار متر مكعب لمصر وأربعة مليارات من الأمتار المكعبة للسودان.

وقعت مصر والسودان على اتفاقية عام 1959 - قبل البدء في إنشاء السد العالي في أسوان - لتتقاسم الكمية التي سيختزنها هذا السد.

وينص الاتفاق فيها على حصول السودان على 14.5 مليار متر مكعب سنويا، يضاف إليها الأربعة مليارات متر مكعب التي كانت تحصل عليها قبل إنشاء السد، لتصبح حصتها الكاملة 18.5 مليار متر مكعب، وأن تحصل مصر على 7.5 مليار متر مكعب تضاف إلى حصتها قبل إنشاء السد العالي (48 مليار متر مكعب) لتصبح حصتها الكاملة 55.5 مليار متر مكعب سنويا. وتم الاتفاق على ترك ما تبقى من المياه التي كانت تفقد بالصرف إلى البحر المتوسط وقدرها 10 مليارات متر مكعب للبخر من بحيرة ناصر، وهي محتوى مائي ضخم يصل طوله إلى 500 كيلومتر (تقع 350 كيلومترا منها داخل الأراضي المصرية و150 كيلومترا داخل الأراضي السودانية)، ويتراوح عرض البحيرة بين 10 و15 كيلومترا، ويصل معدل البخر السنوي منها إلى ما يزيد على 2000 ملليمتر.

ورغم أن اتفاقية مياه النيل عام 1959 كانت تخص فقط دول المصب، لأن الاقتسام حدث في حقيقة الأمر لكميات من المياه كانت في السابق تصرف دون الاستفادة منها إلى البحر المتوسط، فإن الطرفين اللذين وافقا على هذه الاتفاقية أضافا إليها نصا يعطي الحق لكل دول الحوض في الاعتراض على هذه القسمة. وأوضحت الاتفاقية أن الدولتين الموقعتين ستتخذان الإجراءات التي من شأنها إعادة النظر في هذا التقسيم إذا اعترضت أي من دول الحوض.. إلا أن بعض الدول همهمت فقط بما يفيد عدم الموافقة، لكن اعتراضا رسميا واحدا لم يقدم لا إلى مصر ولا إلى السودان.

حاولت بعض الدول إيجاد صيغة للتعاون، وتحمس لهذا التعاون بعض الدول، بينما فضل البعض الآخر أن يحمل صفة المراقب، وقرر البعض الثالث ألا يشارك في مثل هذه التجمعات التي بدأت عام 1967 بمشروع «الهيدرومت» ويعني كما يدل الاسم على الربط بين الأرصاد الجوية وحركة المياه في الحوض، والمعني بالمياه هنا الهطول المطري والجريان السطحي الذي يصل في النهاية إلى ما يسمى بالإيراد الطبيعي.. تلا مشروع «الهيدرومت» مشروع آخر يسمى «تكونيل»، وأيضا هنا تم المزج بين النيل والقضايا الفنية المتصلة به، وكان هذا المشروع يحمل نقلة من تجميع البيانات إلى تطوير بعض النماذج الحسابية التي تحاكي ما يحدث في الحوض على أرض الواقع.

لم يشهد أي من التجمعات السابقة الإجماع الذي شهده قيام مبادرة حوض النيل عام 1999، والتي شارك في الإعداد لها بقوة البنك الدولي كوكيل عن مجموعة من الدول المانحة التي أعطت للبنك الضوء الأخضر لتمويل أي مشروعات توافق عليها دول الحوض ويبارك خبراء البنك الدولي جدواها الاقتصادية والفنية وصداقتها للبيئة. من هذا المنطلق شاركت تسع دول في مبادرة حوض النيل، ولم تلحق بالركب إريتريا التي ليس لها الإسهام الفعال في الموازنة المائية للحوض.

تم تقسيم الدول التسع من خلال مبادرة حوض النيل إلى دول النيل الجنوبي وتشمل الكونغو الديمقراطية ورواندا وبوروندي وتنزانيا وكينيا وأوغندا، ودول النيل الشرقي وتشمل إثيوبيا ومصر والسودان.

وانقسمت أنشطة المشروع إلى برامج ترسخ مبدأ المشاركة في المنافع، وأهمها توليد الطاقة الكهربائية والملاحة والزراعة والصناعة، وبرامج أخرى ترسخ فكرة المشاركة في الرؤية بغرض استدامة التعاون وانتقاله من جيل إلى الجيل الذي يليه. كما كان من الضروري توقيع اتفاقية إطارية تصلح للحاضر ولا تغفل المستقبل ولا تتناساه في الوقت نفسه.

استمرت الوتيرة هادئة لاجتماعات مبادرة حوض النيل لفترة تصل إلى ما يزيد على عشر سنوات، لم يسمع أحد خلالها أي تصريحات تفيد بوجود خلاف بين الدول الأطراف سوى في نهاية العام العاشر، عندما أشيع - تصريحا وتلميحا - أن توقيع الاتفاقية الإطارية يتعثر لإصرار دول المنبع السبع على اتخاذ موقف متصلب يقابله موقف مماثل من مصر والسودان.. إلى أن جاء شهر مارس (آذار) 2009، وجاءت معه رياح التغيير في الوفد المصري في المفاوضات، حيث تم استبدال أستاذ جامعي بارز في مجال الري والهيدروليك (هو د.محمد نصر علام) بوزير الري (د.محمود أبو زيد).

ترأس الدكتور علام الوفد المصري للمفاوضات التي عقدت في مدينة كينشاسا بجمهورية الكونغو الديمقراطية في 22 مايو (أيار) 2009.. وقد دعت الكونغو إلى هذا الاجتماع بصفتها رئيس المجلس الوزاري للمبادرة، وقدمت دول المنابع السبع خلال هذا الاجتماع ثلاثة مقترحات: الأول يطالب بإلغاء بند الأمن المائي الذي ينص على ضمان عدم المساس بحصة مصر والسودان وحقوقهما التاريخية في مياه النيل، والمقترح الثاني يطالب بتعديل هذا البند حسب ما يقترحه الأعضاء ويتم الاتفاق عليه، والثالث أن ينقل هذا البند إلى ملاحق الاتفاقية ويعاد النظر فيه في المستقبل.. إلا أن الجانب المصري رد على هذه المقترحات بثلاثة شروط وهي: 1 - وضع نص صريح يضمن عدم المساس بحصة مصر والسودان في مياه النيل. 2 - ضرورة التزام دول المنابع بالإخطار المسبق لباقي الدول قبل القيام بأي مشروعات على النهر. 3 - أن تكون جميع القرارات الخاصة بتعديل أي بند من بنود الاتفاقية الإطارية المزمع توقيعها أو الملاحق المرفقة بها بالإجماع وليس بالأغلبية، وفي حالة التمسك بـ«الأغلبية» فيجب أن يكون لمصر والسودان حق الفيتو.. وإزاء إصرار كل جانب على موقفه انتهى اجتماع كينشاسا دون اتفاق وانسحب الوفد السوداني من الاجتماع غاضبا.

عادت الوفود إلى الاجتماع في الإسكندرية في شهر يوليو (تموز) 2009، ولم يكن هذا الاجتماع أوفر حظا من سابقه.. لكن خوفا من الظهور بمظهر الأطراف المنقسمة التي أخفقت في الاتفاق، آثر المجتمعون إعطاء مهلة مدتها ستة شهور لمزيد من المشاورات التي قد يكون من شأنها الوصول إلى صيغة توافقية بين دول المنابع ودول المصب.

بدأ الاجتماع الثالث والأخير بمدينة شرم الشيخ يوم 11 أبريل (نيسان) 2010 بين الخبراء، وانتهى يوم 14 أبريل بين الوزراء في اجتماع ماراثوني استمر لمدة 17 ساعة وانقضى في الرابعة من فجر هذا اليوم بإعلان ختامي تلاه الناطق باسم دول المنابع، ويفيد بأن هذه الدول قررت فتح باب التوقيع على الاتفاق الإطاري وإنشاء مفوضية لدول الحوض اعتبارا من يوم 14 مايو 2010 ولمدة عام أمام من يرغب في الانضمام، وأن التوقيع على الاتفاق سيتم حتى لو لم توقع عليه مصر والسودان. وإزاء هذه النهاية الصادمة بدأ المحللون في محاولة فهم الدوافع الحقيقية وراء هذا الاتجاه المتطرف الذي لم يعهده الحوار الهادئ بين دول حوض النيل، وكان من الواضح أن إثيوبيا وكينيا تحاولان السيطرة على باقي دول المنابع وجذبها إلى معسكرها.. إلا أن عناصر الاستغراب والدهشة لمعظم المحللين كانت لأن هناك ما يشبه اليقين بأن المجتمع الدولي يرفض أن يكون لنهر واحد مفوضيتان منفصلتان، إذ كيف تستغني دول المنابع عن دول المصب، وكيف تستغني الثانية عن الأولى؟ وكيف تنسى كل دول الحوض هذا التاريخ الطويل من التعاون وتلقي به خلف ظهرها؟.. ثم هل تسمح الظروف الفنية وأهمها طبوغرافيا الحوض بمثل هذا الفصل؟ وهل يمكن أن تقف دولتا المصب مكتوفتي الأيدي أمام إجراءات تقلل من حقهما في المياه التي كانت تأمل أن تزيد بزيادة تعداد السكان وارتفاع مستوى معيشتهم؟.. وغير ذلك الكثير من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات شافية لم يتطرق إليها البيان المقتضب لدول المنابع.

كل ما نستطيع أن نفعله الآن انتظارا لما سيأتي به المستقبل القريب والبعيد هو أن نحاول إلقاء بعض الضوء على الدوافع التي حدت بدول المنابع للإسراع في اتخاذ هذه الخطوة غير المسبوقة في التعاملات بين دول حوض النيل، ولعل بعض هذه الدوافع هي:

1 - الضغط على المفاوضات المصرية السودانية، ودفع الدولتين إلى تليين مواقفهما التي تبدو متصلبة على حد فهم دول المنابع.

2 - تعضيد مواقف الشركاء من دول المنابع الأكثر اعتدالا، ودفعهم إلى أخذ موقف أكثر تشددا، وعدم الإذعان إلى نداءات التوافق مع دول المصب.

3 - البعث برسالة إلى الرأي العام في بلاد المنابع بأن موارد البلاد الطبيعية أصبحت تحت سيطرة أصحابها.

4 - دفع البنك الدولي الذي يمثل الدول المانحة إلى تبني سياسات أكثر اعتدالا تجاه دول المنابع وأقل تحيزا لدولتي المصب.

5 - إرسال إشارة إلى المستثمرين الذين يرغبون في المشاركة في مشروعات مائية تنموية بدول المنبع بأن لهذه الدول كامل السيطرة على مواردها المائية بغض النظر عن موافقة دول المصب.

ومن الطبيعي أن ترفض مصر والسودان بكل قوة مثل هذه الضغوط.. بل وأن تقابلاها بردود قد تكون أكثر ضراوة، يتوقع أن يكون من بينها:

1 - الخطوة الأولى التي بدأت بالفعل عندما بعث الرئيسان مبارك والبشير برسائل إلى رؤساء دول المنابع يطلبان فيها إعادة المفاوضات إلى طاولات التفاوض واستئنافها.

2 - من الممكن أن تؤثر مصر والسودان بما لهما من علاقات ودية مع دول المنابع الأكثر اعتدالا والأقل اعتمادا على مياه النيل وأهمها جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا وبوروندي على مواقف هذه الدول.

3 - من الطبيعي أن تتجه مصر والسودان إلى الدول التي تشارك في أي مشروعات في حوض النيل للمطالبة بوقف هذا الدعم الذي يمكن أن يكون له تأثير على حصص البلدين بشكل سلبي.

4 - كذلك يمكن التنسيق مع الدول التي تقدم الدعم الفني والمالي إلى دول المنابع في محاولة لوقف هذه المعونات والمساعدات إذا لزم الأمر.

5 - الاتصال المستمر بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وكل الجهات والبلاد الداعمة لمبادرة حوض النيل للتأكيد على الاستحقاقات المصرية والسودانية في مياه النيل.

6 - مطالبة أطراف أخرى تتمتع بمصداقية وصداقة دول المنابع ودولتي المصب للتوفيق فيما بينه الجانبين وتقليل الفوارق بين وجهات النظر.

7 - الدراسة المتأنية للوضع القانوني للقضية وكل الآراء والاحتمالات المتصلة بها، والتركيز على ما يدعم الحق المصري والسوداني وإقناع كل الأطراف بهذه الحقوق.

8 - البدء فورا مع السودان في دراسة مشروعات استقطاب الفواقد من منطقة جنوب السودان وتنفيذ ما هو جاهز للتنفيذ منها.

* خبير مياه