معنا أم لا؟

TT

في مثل هذه الأيام تحيي الجاليات الأرمينية حول العالم ذكرى مناسبة مهمة في وجدانهم، وهي فقدانهم لأعداد كبيرة من أهاليهم في معارك مختلفة إبان نهايات الدولة العثمانية التي شهدت الكثير من المعارك والفتن والمشكلات ولقي المئات حتفهم نتاج ذلك. ويعتبر الأرمن أن عدد الذين قتلوا على أيدي العثمانيين يبلغ المليون ونصف، ويعتبرون ما حدث «إبادة جماعية» أشبه بمحرقة اليهود على أيدي النازيين الألمان، بينما يصر الأتراك على أن عدد الذين سقطوا من الأرمن كان لا يزيد على الخمسمائة ألف فقط، ويضيفون أن الأرمن قد قاموا بقتل عشرات الآلاف من الأتراك أيضا. والأرمن لسنوات غير قليلة يصعدون من حملاتهم بحق الأتراك على الصعيد المحلي بتركيا، ومؤخرا على صعيد الولايات المتحدة الأميركية عبر تمرير قانون في الكونغرس يدين تركيا ويسمي ما حدث بحق الأرمن «إبادة جماعية»، ولجأ الأرمن إلى العنف المدمر وكونوا المنظمات الإرهابية التي كانت تقوم بعمليات خطيرة تشتمل على التفجيرات والاغتيالات، وأشهر هذه التنظيمات كانت منظمة «أسالا» المتطرفة التي اغتالت 42 دبلوماسيا تركيا في السبعينات والثمانينات الميلادية من القرن الماضي.

تركيا الحالية أخذت خطوات مهمة في مد جسور الصداقة والمصالح مع أرمينيا وحسنت من مناخ المعيشة بالنسبة إلى الجالية الأرمينية في تركيا، ولكن الشك والقلق والريبة الأرمينية استمرت سيدة الموقف، ولم تبادل أرمينيا تركيا الخطوات البناءة نفسها، ولا تزال الخطوة التاريخية التي قام بها الرئيس التركي عبد الله غل والتي تمثلت في زيارته لأرمينيا والاتفاق على بعض المعاهدات المهمة في ذاكرة الكثيرين، ومع ذلك عرقلت أرمينيا تنفيذ هذه الاتفاقيات بفتح ملف الإبادة مجددا. تركيا ليست الدولة العثمانية كما أن ألمانيا بالنسبة إلى إسرائيل ليست هتلر والنازية، والكارثة اليوم وفي ظل التقارب العربي التركي الممتاز والمبني على مصالح مشتركة في غاية الأهمية والخطورة، تخرج أصوات أرمينية من العالم العربي، وتحديدا من لبنان وسورية والأردن، تندد وتحذر من هذا التقارب وتتعجب منه، ويدلي الكثير من الساسة ورجال أعمال أرمن بتصاريح «غريبة» تشكك في تاريخ الأتراك وعلاقتهم بالآخرين. المناحة الأرمينية لا مكان لها في العالم العربي، فالأرمن حولوا هذه القضية إلى «بكائية» لا نهاية لها وإلى جنازة بلا دفن، تركيا اليوم دولة مسؤولة تحل مشكلات طوائفها وأقلياتها بشكل متزن وعقلاني يشهد على ذلك اليهود والمسيحيون والأكراد وحتى العقلاء من الأرمن أيضا. ولكن تحويل «المناحة» الأرمينية إلى خندق مكهرب بين العرب والأتراك واستخدام هذا أمام المجتمع الدولي بشكل رخيص (لن تستفيد منه إلا إسرائيل بطبيعة الحال) هو أمر مرفوض تماما. الأرمن جالية معززة مكرمة في العالم العربي اندمجوا في عوالمه ونجحوا في الرياضة والأدب والأعمال والسياسة والفن ونالوا ثقة الناس واحترامهم بجدارة ومصداقية، ولكن اليوم يتوجس العرب من «توقيت» التصريحات الأرمينية وكثافتها والتجرؤ على القول بهذا الشكل غير المسؤول، وهي مسألة لا بد أنها ستنعكس على مقصد ونيات الأرمن جراء كل ذلك، وخصوصا أنهم ارتأوا الصمت الطويل على مجازر إسرائيل في حق العرب (وهم الذين لديهم حي معروف في القدس الشرقية وتعرضوا بشكل مباشر إلى الأذى والضرر من الاحتلال الإسرائيلي الغاشم والموتور). على الأرمن الكرام القرار، هل هم جزء أصيل من عالمهم العربي أم لا؟ العالم العربي اليوم من مصلحته التقرب إلى دولة محترمة قوية كتركيا.

[email protected]