غبار بركان آيسلاندا.. إعلام وسياسة

TT

في غمرة أزمة اليونان التي جرّت الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ قرارات ستكون ذات تكلفة كبيرة، داهمت الأوروبيين أزمة سحابة بركان آيسلاندا التي خلفت خسائر جسيمة بعد أن شلت النقل الجوي في عدة مناطق من العالم.

فبمجرد انبعاث غبار البركان من سماء آيسلاندا غطى الدنمارك والنرويج وإنجلترا وألمانيا وهولندا ابتداء من يوم الأربعاء 14 أبريل، تعطلت المواصلات الجوية مع تلك الدول وأضيفت إليها فرنسا وإيطاليا والنمسا والتشيك وسويسرا وشمال إسبانيا، مما وسع رقعة المتأثرين بتعطيل الملاحة الجوية في تلك المنطقة. وظهر حينئذ بوضوح ماذا تعني عبارة المركز والهامش، والفاعلين المؤثرين والشركاء المتأثرين، في أوروبا والعالم.

ويجب أن نبرز أنه على مر الساعات تعلق انتباه نصف العالم تقريبا بتلك السحابة المعلقة على ارتفاع نحو ثمانية آلاف متر. وتم ذلك بفعل كثافة المعلومات التي كانت تبثها وسائل الإعلام المختلفة في الدول المعنية، والتي كانت ترددها في كل أنحاء العالم بقية وسائل الإعلام استنادا إلى المصادر الأوروبية، وظهر المركز الذي تحتله في الاقتصاد العالمي خمس أو ست دول أوروبية. واستمر الترويج الإعلامي على ذلك النحو طيلة الأيام الأربعة الأولى، ثم دام أسبوعا.

ومنذ الوهلة الأولى أخذت المعلومات المتعلقة بتلك الفقاعة الضخمة والمتحركة فوق سماء آيسلاندا وما جاورها تحجب عن أنظار العالم ما كان يحدث فوق الأرض. وباستثناء فئة محدودة من هواة السياحة الإيكولوجية هبت بعد أربع وعشرين ساعة إلى موقع قبالة البركان المنفجر، لم يدر أحد أن انفجار البركان تطلب نقل نحو 800 من سكان قرية تقع بقربه، وأن هناك تدابير اتخذتها الوقاية المدنية لتجنب الأضرار المحيقة بالسكان وبأغنامهم من جراء الغبار المنبعث من البركان.

وقبل هذا لم تكن آيسلاندا تطل على شاشة الأخبار إلا حينما ينشر في شهر أغسطس الجدول السنوي الذي يصدره برنامج الأمم المتحدة للتنمية، وتظهر فيه آيسلاندا متناوبة مع النرويج على الرتبة الأولى في ذلك الجدول. وقد تكرر هذا طيلة السنوات الخمس الأخيرة. وجدير بالتذكير أنه منذ بدء نشر الجدول المذكور الوارد ضمن تقرير بالغ الأهمية، لم تتصدر الرتبة الأولى فيه سوى دول من عيار اليابان (مرة واحدة) وكندا (مرات عديدة). وفي التقرير الأخير بلغ مؤشر التنمية البشرية في آيسلاندا 0.968. وقد قدم هذا البلد في السنة الماضية بلا ضجة ترشيحه لعضوية الاتحاد الأوروبي. والقليل من الأخبار المتفرقة المتعلقة بالبركان، التي نقلتها وكالات الأنباء عن الصحف المحلية الآيسلاندية ذكرت الاسم الكامل للموقع البركاني، وهو يتركب من 12 حرفا، هي كالتالي: eyjafjallakull. وبدلا من ذكر ذلك الاسم الطويل كانت الأخبار تتحدث عموما عن «بركان آيسلاندا». وحينما سمعت لأول وهلة مذيعا في إسبانيا يقول إن اسم الموقع لا يمكن النطق به، ظننت أن السبب هو أن النطق به قد يحيل المستمع الإسباني إلى معنى فاحش، مثل ما يحدث بالنسبة إلى بعض المفردات في العربية التي يختلف مدلولها من بلد إلى آخر، ولا يمكن النطق به في الإذاعة. كما أن وسائل الأخبار الكبرى لم تتعرض إلى انقطاع المواصلات الطرقية في آيسلاندا بسبب ارتفاع منسوب المياه بالقرب من البركان، ولا عن الطرق البرية التي خربتها الفيضانات. وبهذه الطريقة تصنع الوكالات الكبرى الأجندة الإعلامية للعالم. وقس على ذلك زلزال هايتي والجدار الإسرائيلي وأنفلونزا الخنازير. لقد انصرف الانتباه كلية إلى السحابة، على غرار ما يصنع الإعلام حينما يتعرض إلى مثل هذه الوقائع الغنية بالتفاعلات البارزة على السطح. فقد ركز على الآثار المثيرة لانتباه أوسع قاعدة بشرية ممكنة، من زاوية الانعكاسات التي تمس مئات الآلاف من البشر، أي أن تتحول الواقعة إلى مادة تلبي فضول أولئك المتلقين. ولا تسأل وسائل الأخبار عن أي محتوى تنقله لنا، ومن أي زاوية تنظر منها إلى الواقعة. ولا أقول هذا تعريضا بوسائل الإعلام، فهذه هي طبيعة عملها، ولا يعيبها أنها تظل تنهش جسم المادة الخبرية حتى يتحول إلى حطام. وهي لا تلام إذا ما ركزت على جانب دون غيره، ما دامت تلبي فضول المتلقين وتشبع الجوع إلى المعلومات الذي ينتاب مئات الآلاف أو الملايين من المتلقين. ولا يستغرب حينئذ أن يهمل اسم الموقع الذي أنتج الواقعة وكذلك سكانه ومصيرهم. ويحدث أحيانا أن يشتهر اسم أحد المواقع، لمجرد أنه كان مسرحا لواقعة لا يد له فيها سوى أنه كان مسرحا لها، مثل «يالطة» التي وقع فيها اجتماع للمنتصرين في الحرب العظمى الثانية ليقتسموا العالم بعد الانتصار على دول المحور.

على أن واقعة غبار السحابة الآيسلاندية تبعث على التفكير أيضا في جانبها السياسي، إذ فضلا عما برز من خلالها من ارتباط نصف العالم تقريبا بدول رئيسية غمرتها السحابة البركانية، فقد فرضت الواقعة على دول الاتحاد الأوروبي أن تتخذ على الفور قرارات مشتركة، لمواجهة الآثار الناجمة عن اعتراض السحابة لحركة الطيران في المنطقة. ومنذ اليوم التالي لاكتساح السحابة فضاء شمال غربي أوروبا اعتبرت أجهزة الاتحاد الأوروبي أن هناك حالة استعجالية، تطلبت عقد اجتماع طارئ لوزراء المواصلات تم في شكل فيديو كونفرانس، شارك فيه 27 وزيرا، وتقرر فيه بسرعة إقفال الأجواء في منطقة واسعة لفترة قصيرة سرعان ما وقع تمديدها. وكان أول ما برز في غمرة ذلك التحرك السريع أن جهاز الأوروكونترول لتدبير الأجواء المشتركة لم تكن له أدوات كافية لتنسيق الأفعال فيما بين دول الاتحاد، كما أن ذلك الجهاز لم تكن له المعطيات الدقيقة التي تمكن من اتخاذ قرارات تكون ملائمة. ولهذا اتسمت التدابير المتخذة - كما وصفت فيما بعد، حينما هدأت الخواطر - بنوع من التسرع واللاتنسيق. واستنتج المعنيون، من خلال مراجعة القرارات المتخذة لمواجهة الحالة الاستعجالية، أن برنامج «السماء الأوروبية الموحدة» الذي اتخذ سنة 1999 يجب أن يراجع لضمان مزيد من التنسيق، حتى يكون هناك نظام ناجع في 2012. أي أن التجربة جعلت دول الاتحاد الأوروبي تؤكد عزمها على مزيد من توطيد البناء الأوروبي.

وحينما اجتمع البرلمان الأوروبي، ظهرت أفكار سريعة بشأن تطوير وسائل النقل الأخرى، مثل السكك الحديدية. كما برزت في بعض الصحف ردود فعل سريعة أيضا حول ما تمثله أزمات مماثلة من مخاطر تهدد الرخاء الذي أصبح يميز الحياة العصرية، حينما تزمجر الطبيعة بغضباتها المفاجئة مثل الزلازل والبراكين والفيضانات.

وهكذا فإن توالي الأزمات من نوع ما طرأ على حركة النقل الجوي، ومن نوع الورطة التي وقعت فيها اليونان، وأوقعت فيها شركاءها الأوروبيين، إنما تزيد الدول الأوروبية اقتناعا بمزيد من التضامن فيما بينها وتوطيد اندماجها الاقتصادي، أي تزداد اقتناعا بتأمين ما يكفل تذليل السبل الضامنة لتبادل المعلومات وتسهيل التنسيق، وتحسين فرص اتخاذ القرارات الملائمة، لمواجهة حالات الاستعجال. ولهذا الغرض سينعقد اجتماع وزاري استثنائي لدول الاتحاد في الثامن من مايو، أي أن هذه الدول ماضية في مسيرتها الاندماجية، وليكن هذا درسا لمن يريد أن يعتبر. يتم ذلك بلا هوادة، إن لم نقل بحماس، فيما عدا بريطانيا، قبل الظاهرة التي يمثلها الليبرالي نيكغليك.