كيف يتغير العالم؟!

TT

سوف أحاول أن أكون مغامرا في هذا المقال، ففي العادة لا يصبر الكتاب أو القراء كثيرا على حديث مفعم بالنظريات والحجج الأكاديمية؛ كما أنه عندما يتعلق الأمر «بالتغيير» فإن الأمر يبدو كما لو كان تناولا لواحدة من سنن الحياة، وكان أفلاطون قد قال إن الإنسان لا ينزل في نفس النهر مرتين، وهناك عشرات من الأقوال المشابهة، ومنذ وقت طويل عانت مقولة أنه «لا جديد تحت الشمس»، رغم شيوعها في بلادنا، كما هائلا من السخرية. ولكن المسألة ليست فقط في إدراك التغيير ومداه واتجاهاته، وإنما أيضا في تفسيره، وعندما يتعلق الأمر بما يجري في العالم فإن المسألة كلها تزداد تعقيدا. أما لماذا نهتم بذلك كله، فإن الموضوع ليس الرضا العلمي بقدر ما هو السياسات التي نسعى إلى تحقيقها، وبدون أن تكون قائمة على فهم صحيح لما يجري فإنها إما ستجرنا إلى كوارث لا حد لها، أو أنها سوف تنتهي بنا إلى دفع تكلفة عالية.

علماء العلاقات الدولية اتفقوا منذ وقت طويل، أو اتفقت كثرة منهم، إذا شئت الدقة، على أن النظام العالمي يتغير إذا ما جرت تغييرات جوهرية في ثلاثة أمور: نمط التكنولوجيا السائد، وعلاقات القوى القائمة، وقائمة الأعمال التي على كل دول العالم أن تتعامل معها. المثل الواضح كان بعد الحرب العالمية الثانية التي نقلت العالم من الثورة الصناعية والتكنولوجية الأولى إلى الثانية، وانقلب العالم من متعدد الأقطاب إلى نظام القطبية الثنائية، ومن ثم فقد باتت القضايا الرئيسية للمجتمع الدولي هي تلك التي تعلقت بالحرب الباردة وسباق التسلح والصراعات الإقليمية التي ينقسم أطرافها بين معسكري العالم. ولكن الدنيا تغيرت، أو انقلبت في نهاية الثمانينات عند سقوط حائط برلين، ومعه تم إشهار الثورة الصناعية التكنولوجية الثالثة، ومعها ظهر مصطلح «النظام العالمي الجديد» في بداية التسعينات من القرن الماضي، عندما لمح إليه الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب بعد انتهاء حرب عاصفة الصحراء (حرب الخليج الثانية) بخروج القوات العراقية من الكويت، حيث تحدث عن «عهد جديد من الحرية والسلام» تنعم به الشعوب المختلفة على مستوى العالم. وعقب ذلك حظي هذا المصطلح باهتمام أكاديمي وسياسي واضح واكتسب وجاهة خاصة مع انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء عهد الاستقطاب الدولي وبروز الولايات المتحدة الأميركية كقوة عظمى وحيدة على الساحة الدولية، حيث بدأ الترويج لمصطلح «النظام العالمي أحادي القطبية»، وظهرت طروحات فكرية عديدة تتوافق مع هذا المصطلح من قبيل مقولة «نهاية التاريخ» للكاتب الأميركي (الياباني الأصل) فرانسيس فوكوياما التي تقوم على أن التاريخ وصل إلى نهايته بانتصار المعسكر الرأسمالي وسقوط الشيوعية وهيمنة القيم الأميركية، والغربية عموما، من قبل اقتصاد السوق والديمقراطية، على الصعيد العالمي. وعلى أي الأحوال فقد كانت قائمة الأعمال العالمية مرتبطة بتحول العالم كله إلى سوق رأسمالية واحدة عبرت عنها منظمة التجارة العالمية، ومن بعدها بدأ الاستعداد لنظام مالي موحد كانت الخطوة الأولى فيه أن تكون عملات العالم كلها قابلة للتحويل.

هل يمكن الآن الحديث عن نظام عالمي آخر، العلماء يقولون لنا الآن إن العالم يدخل طورا جديدا من الثورة الصناعية التكنولوجية يمكن تسميته بثورة جديدة لأنها تغير حياة الناس بصورة كيفية لم تحدث من قبل. صحيح أنها فيها الكثير من الامتداد لما كان جاريا في ثورات الاتصالات والجينات، ولكن المزج بينهما من خلال وسائل الاستشعار، والقفزات الضخمة في مصادر الطاقة المتجددة تجعلنا أمام تاريخ آخر. أما علاقات القوة فإنها تبدو تغيرت هي الأخرى، فمما لا شك فيه أن الولايات المتحدة لم تعد على حالتها، وأصابتها الجروح والتكاليف الفادحة في العراق وأفغانستان والأزمة الاقتصادية، ويأتي الصعود الكبير للصين لكي يطرح فكرة القطبية الثنائية مرة أخرى، حيث يصل معدل النمو في الصين إلى أكثر من 9%، وهي القوة العالمية الثالثة بعد الولايات المتحدة واليابان لدرجة أن بعض المراقبين يرشحونها لتتبوأ المكانة الأولى عام 2015. ووفقا لبعض التقديرات، فإنه في حالة استمرار معدل النمو الاقتصادي للصين على هذا المستوى، فإن ذلك يمكن أن يجعل ناتجها المحلي الإجمالي يصل إلى 80% من الناتج الداخلي الخام للولايات المتحدة بحلول عام 2020. وعلى الصعيد العسكري، تأتي الصين في المرتبة الثانية على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة من حيث الإنفاق العسكري، حيث يتوقع أن تخصص 77.9 مليار دولار لهذا الغرض عام 2010.

ولكن المسألة ليست بهذه السهولة، فالولايات المتحدة ما زالت تشكل القوة الرئيسية على مستوى العالم من حيث مؤشرات القوة المعروفة: السياسية والاقتصادية والعسكرية. فهى السوق الرئيسية على مستوى العالم، وتمتلك الاقتصاد الأقوى على الساحة، حيث يقدر إجمالي ناتجها المحلى (بالقوة الشرائية) لعام 2009 بـ14.26 تريليون دولار. وهو ما يساوي تقريبا الناتج المحلي الإجمالي لكل دول الاتحاد الأووبي السبع والعشرين، بل إنها تتفوق على كل من الصين واليابان معا، حيث الناتج المحلي الإجمالي للأولى قدره 4.9 تريليون دولار بينما الثانية 5.075 تريليون، وهى كذلك تظل متفوقة حتى لو أضيفت روسيا إلى العملاقين. ومن حيث الإنفاق العسكري، تسهم الولايات المتحدة بأكثر من نصف إجمالي الإنفاق العسكري على مستوى العالم. ووفقا لبعض التقديرات، تنفق واشنطن على دفاعها 10 أضعاف ما تنفقه الصين و12 ضعف ما تنفقه روسيا و100 ضعف ما تنفقه إيران. وإذا أضفنا إليها حلفاءها في الناتو إلى جانب اليابان وكوريا الجنوبية، فإن الإنفاق العسكري لهذه الكتلة سوف يصل إلى 1.1 تريليون دولار سنويا.

ولكن ربما تصل معضلة قياس الحال في النظام العالمي إلى أن هناك حقيقتين لا جدال فيهما: الأولى أن حالة الولايات المتحدة لم تعد كما كانت في العقد الأخير من القرن العشرين من حيث القوة والمنعة والتأثير. والثانية أن قائمة الأعمال العالمية خلال العقد لم تعد قائمة على علاقات القوة والتنازع بين القوى العظمى أو الكبرى، حيث كان الموضوع الأساسي في العلاقات الدولية ما سمي بالحرب ضد الإرهاب، والأزمة في العلاقات بين الغرب والأصولية الإسلامية التي شملت مجالات وأبعادا مختلفة. ذلك خلق شكلا جديدا للعلاقات بين القوى الكبرى ربما كان أفضل من عبر عنه باراك أوباما الذي تبنى نهجا مختلفا يعتمد في الأساس على أن مستقبل العالم لن يقوم على فكرة القطبية، وإنما يعتمد على سيادة قيم ونظم معينة ترتبط بالديمقراطية والرأسمالية والحرية. أي إن القطبية، وفقا لهذه الرؤية، سوف تكون في المستقبل لنظم وقيم وليس لدول. هذه الرؤية تحديدا عبر عنها الرئيس الأميركي أوباما بوضوح في خطاب جامعة القاهرة في 4 يونيو (حزيران) 2009، عندما قال إن «الديمقراطية مبادئ مشتركة وليست خاصة بالولايات المتحدة الأميركية».

هذه الرؤية الجديدة تطرح مضامين عدة، أهمها أن النظام العالمي الجديد هو نظام تصالحي لا يستبعد أحدا من أطرافه، تتداخل فيه المصالح الوطنية مع الدولية، صحيح أن بين فواعله خلافات عديدة لكنها خلافات طبيعية يمكن حلها بقيم وآليات مثل الحوار أو ما يسمى بـ«ديمقراطية العلاقات الدولية» بما يضمن الاستقرار للجميع، ويمنع تفاقم النزاعات التي يتطور بعضها إلى مواجهات مسلحة يدفع ثمنها عدد كبير من الأبرياء. وقد اتخذت الإدارة الأميركية خطوات في هذا السياق، منها الاتجاه نحو صياغة علاقات جديدة حتى مع من يعتبرون خصوما للولايات المتحدة مثل محاولة فتح حوار مع إيران وسورية، واستبعاد استراتيجية الحروب الاستباقية، وتقليص النزعة التفردية في إدارة الأزمات الطارئة على الساحة الدولية، وقد ترجم أوباما ذلك بقوله أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 سبتمبر (أيلول) 2009، إن «الولايات المتحدة ليس بوسعها أن تحل مشاكل العالم الملحة وحدها» وأنه «إذا كنا صادقين مع أنفسنا علينا أن نعترف بأننا لا نتحمل هذه المسؤولية». هل معنى ذلك أن «القوة» بمعناها المادي باتت مستبعدة في العلاقات بين الدول العظمى، وأن من الأفضل الآن أن نتحدث عن القدرة على «التأثير» وليس «الضغط»؟ ربما.