جُدّة.. رؤية من خلف طبقات الخمار!

TT

تعرف «سرينات» البحر الأسطورية بأنها كائنات خرافية لها رؤوس حسناوات فاتنات وأجساد عصافير، تمارس إغراء البحّارة بغنائها العذب، وهي تقف على شاطئ صخري، فيكون الغرق مصير السفن الجانحة عشقا إلى شاطئها، ويرى الأديب جبرا إبراهيم جبرا أن الذاكرة بالنسبة للمبدع هي «سرينة» حقيقية، تغوي المبدع، وتشده في اتجاهها، وما أعظم «السرينات» التي أغرت سيدة جاءت من لبنان إلى جدة عام 1958 - وما أدراك ما جدة في عام 1958 - بعد زواجها من سعودي، لتكتب في عام 2009، أي بعد أكثر من نصف قرن، كتابا عن رحلة حياتها في هذه المدينة بعنوان «ذاكرة الزمن الجميل.. جُدّة التي أحببتها»، بدأته بالحديث عن ذلك اليوم البعيد الذي قبلت فيه أن تتزوج من شاب سعودي انفتح له قلبها على مصراعيه حين قابلته أول مرة، لتنهال على مسامعها التعليقات: «مجنونة! تتركين لبنان لتنتقلي إلى الصحراء؟»، «ألا تعلمين أن الرجال هناك يتزوجون أكثر من امرأة؟»، «ما فائدة دراستك الجامعية وأنت ستعيشين كالحريم؟».

وحين حطت بها الطائرة في مطار جدة، قبل أكثر من نصف قرن، كان عليها أن تسدل على وجهها طبقات من خمار أسود، تحسست بعدها درجات سلم الطائرة خوف الانزلاق، ومن خلف هذا الغطاء بدت جُدّة لها طرقات ضيقة متربة، لا شجر فيها ولا أرصفة، ولا أنوار، إنما أسوار متقاربة تختبئ وراءها منازل صغيرة منخفضة. في هذه المدينة التي كبرت وتضخمت وعظمت، نمت شجرة عمر الكاتبة أيضا، وغدا لها فيها أسرة وأبناء، أرادت أن تقص عليهم بعد أن فرغت من مسؤولياتها التربوية كأم تجربة حياتها في جُدة، فتحدثت عن عاداتها، وتقاليدها، وأسواقها، وبعض تفاصيلها الدقيقة، مبدية إعجابها بالمنتزه البحري للمدينة، وتقول: «لو لم يوجد (أبحر) لكان علينا أن نخترعه».

كم أشعر أن هذا الكتاب - الذي لم أقرأ لمؤلفته ليلى النعماني علي رضا شيئا من قبل - من نوع الكتب التي تتوحد فيها سيرة الكاتب بسيرة المدينة التي يسكنها وتسكنه، ورغم أنني عشت في نفس المدينة خلال نفس الفترة التي عاشتها المؤلفة، فإن ما قرأته في هذا الكتاب الرائع الجميل يؤكد أن جدة ليست مدينة واحدة، ولكنها عدة مدن بعدد زوايا ومستويات الرؤية التي ننظر إلى المدينة من خلالها، وللمؤلفة ولكتابها صادق التقدير على هذا المنجز المختلف.

[email protected]