إله الحكمة الذي خرج إلينا بالصدفة!

TT

لم يكن أحد يخطر على باله أبدا، والشمس تلهب رؤوس المهندسين والعمال الذين يقومون بأعمال الحفر في مشروع سحب المياه الجوفية، لإنقاذ معابد البر الغربي في الأقصر أن يخرج لنا من بين التراب والرمال والطوب والزلط أضخم تمثال لقرد من الجرانيت الوردي يصل وزنه إلى نحو خمسة أطنان، وهو يمثل الإله «تحوت» إله الحكمة عند المصري القديم.

وقبل الحديث عن أهمية هذا الكشف الرائع، لا بد من أن نعرف أن مشروع التحكم في المياه الجوفية بالبر الغربي في الأقصر يعتبر أضخم مشروع من نوعه يقوم المجلس الأعلى للآثار في مصر بتنفيذه، وذلك بتمويل كامل من المعونة الأميركية، والهدف هو إنقاذ آثار البر الغربي، خاصة المعابد الجنائزية لملوك وفراعنة مصر في الدولة الحديثة، وعلى رأسها معبد الرامسيوم للملك «رمسيس الثاني»، ومعبد هابو للملك «رمسيس الثالث»، ومن قبلهما معبدا «أمنحتب الثالث»، ومعبد الملك «سيتي الأول».

يأتي هذا المشروع بعد أن نجحنا في السيطرة على المياه الجوفية في البر الشرقي للأقصر، التي كانت تهدد بسقوط معبد الأقصر.. وما زلت أذكر عندما زرت معبد الأقصر قبل عشر سنوات في عام 2000 ووجدت المياه الجوفية تصل إلى أساسات المعبد، الأمر الذي كان يهدد تلك النقوش والمناظر البديعة، بل وسقوط أعمدة المعبد، لذلك بدأنا على الفور في إنقاذ معبدي الأقصر والكرنك، وتم تمويل المشروع أيضا من خلال المعونة الأميركية وبإجمالي تكلفة 50 مليون جنيه.

وإضافة إلى مكسب إنقاذ آثار عظيمة خالدة، استفدنا كذلك من هذا المشروع بتدريب أثريين على القيام بأعمال حفائر الإنقاذ، أو ما يعني تدريب الأثري على العمل تحت ظروف حفر وفى وجود معدات ثقيلة، وكيفية تسجيل الطبقات والآثار التي تكتشف أثناء العمل؛ ولذلك، وقبل البدء في مشروع البر الغربي، تم تكليف فريق عمل مدرب من الأثريين لمراقبة أعمال الحفر وتسجيل وتصوير القطع الأثرية أثناء العمل، ونقلها إلى مخازن الآثار.

والكشف الجديد يقع إلى الغرب من معبد الملك «أمنحتب الثالث»، وهو أحد التماثيل التي كانت توضع داخل المعبد. وحاليا تعمل بعثة ألمانية في حفائر معبد الملك «أمنحتب الثالث»، واستطاعوا الكشف عن كثير من تماثيل البازلت الأسود التي تمثل الإلهة «سخمت» جالسة على عرش في هيئة سيدة برأس أنثى الأسد. و«سخمت»، للعلم، هي إلهة الحرب وفى الوقت نفسه إلهة الشفاء عند المصري القديم، وقد صنع لها الملك «أمنحتب الثالث» مئات التماثيل، لأنه كان يعاني من مشكلات صحية جمة في نهاية حياته، وكان يتمنى مساعدة إلهة الشفاء «سخمت» له.

وقبل أن أتوجه لرؤية الكشف الجديد - التمثال الضخم لقرد يتعبد إلى الشمس - صحبت معي مديرة البعثة الألمانية لكي تشاهد الشباب المصري وهو يستخرج أحد أضخم التماثيل المكتشفة إلى الآن، وقد لاحظت أنها لم تكن سعيدة على الإطلاق، نظرا لأن هذا الكشف تم بأيد مصرية وبالقرب من المنطقة التي تعمل فيها، وربما كانت تتمنى أن يكون هذا الكشف ضمن أعمالها.

أما أنا فكنت سعيدا للغاية وأنا أرى شبابا يعمل بكل جد وعزيمة وفى ظروف قاسية لإثبات وجوده، وكنت سعيدا أكثر لأن هذا الكشف جاء مناسبا تماما للمتحف الجديد الذي سوف نفتتحه قريبا في محافظة المنيا ويسمى المتحف «الآتوني» الذي نخصصه للملك «أخناتون» وآثار عصره باعتباره أول ملك نعرفه يدعو إلى ديانة التوحيد في مصر، وقد جسد قوة الإله الواحد في قرص الشمس، التي كانت في العقيدة المصرية القديمة هي المحرك للحياة. أما القردة فكان دورها أن تهلل لشروق الشمس كل صباح..!