الكرد والمملكة.. انعطافة تاريخية ووشاح

TT

تعد زيارة رئيس إقليم كردستان السيد مسعود بارزاني للمملكة العربية السعودية انعطافة تاريخية كبرى في فضاء العلاقة بين كرد العراق والمملكة، إذ عمد النظام الشمولي السابق على عزل الكرد إعلاميا عن المحيط العربي، بوصفهم متمردين يسعون إلى تمزيق وحدة العراق. فأنفق مليارات الدولارات على الفنانين والإعلاميين والكتاب العرب حتى من الدرجة الثالثة، من أجل نسج الأكاذيب والافتراءات، لتكريس وتعزيز هذه الثقافة وتعميقها.. وفي الداخل لم يشهد تاريخ العراق الحديث من ويلات وخراب ودمار وصنوف للتعذيب والقتل كالتي تعرض لها الكرد، ومن أسطع مظاهرها الأنفال وحلبجة، وعلى الرغم من هول الفاجعة فإن الدول العربية غضت الطرف عن ذلك خدمة لمصالحها أو انسجاما مع ما يعزفه النظام الشمولي من ألحان التضليل والكذب، فتبدد صراخ المعذبين والمقهورين من الكرد في وديان كردستان، وبعد خوض الكثير من الحروب والقهر والدمج القسري، وبسبب حماقة النظام غير المدروسة لغزو الكويت، توافرت الفرصة التاريخية بمساعدة دولية ونضال الكرد للتحرر من ظلم النظام البعثي الشوفيني..

وفي ظل ظروف صعبة وقاهرة وتهديدات وانتهاكات من دول الجوار المحيطة بكردستان العراق التي تتقاطع مصالحها مع مصالح الكرد، وتركة النظام من خراب اقتصادي هائل، إذ لا وجود لملامح مدن عصرية، بل لنقل بقايا مدن وضعف شديد في الخدمات والتعليم والصحة.. فضلا عن أكثر من 5 آلاف قرية محروقة، ونظام إداري فاسد ارتبط بثقافة النظام الشمولي، يديره انتهازيون ومرتشون، ارتبطت مصالحهم بالنظام، ولا توجد حتى ملامح بنية اقتصادية! وعلى الرغم من ذلك استطاع الكرد في البدء من رسم سياسة هادئة، سعت إلى تحييد دول الجوار في الأقل، وتجنب أي احتكاك معها، عبر سياسة التحرك وفق نظرية أقل الخسائر، هذه كانت سمة العلاقات الخارجية، لتنصرف إلى بناء مؤسسات مدنية، وتشكيل البنى التحتية. وفي الجانب الاجتماعي عمدت القيادة السياسية إلى احتواء العناصر التي تعاونت مع النظام المباد وبأساليب سلسة تم إدماجها اجتماعيا من دون اللجوء إلى سياسة التنكيل والثارات، واستمر هؤلاء من دون أية مساءلة في واحدة من المعالجات الفريدة التي لا تقل شأنا عما فعله رفاق نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، فمثلا يعمل الآن أحدهم مديرا عاما في دائرة مهمة، وهو قد ساهم في قيادة جرار لهدم القرى الكردية! وقصص أخرى.. لكن تجربتنا هذه لم يسلط الضوء عليها في حين تجربة جنوب أفريقيا محل بحث ودراسة من قبل المنظمات الدولية والإعلام العالمي، ولكن مع الفارق بين التجربتين.

وفي خضم هذه الأجواء بدأت عمليات البناء على أنقاض الخراب والدمار الهائل.. وبعد التغيير قاد السيد مسعود ورفاقه النضال من أجل بناء مؤسسات مدنية في الإقليم، وتحولت كردستان إلى ورش بناء حقيقية وبوتيرة متصاعدة، ذروتها ما حصل زمن حكومة السيد نيجرفان بارزاني الذي حول الإقليم إلى ورشة عمل هائلة.. وفي ظروف قياسية استتب الأمن وتحولت كردستان إلى ملاذ آمن للعراقيين على عكس ما يبثه المنتفعون من خيرات العراق في الخارج من سموم وتشويش وإشاعات وأقاويل تدعو للسخرية، ساعين إلى تمزيق العلاقات الاجتماعية بين المكونات، فانطلقت الشائعات عن سعي الكرد نحو الانفصال، والارتباط مع إسرائيل، وآلاف اليهود يسيرون في شوارع كردستان، ورفض الإقليم استقبال العرب، وطوفان من الأكاذيب والخزعبلات لا ينقطع.

لكن وبعد مضي سبعة أعوام على إزالة النظام، استطاع الإقليم أن يثبت إيمانه بوحدة العراق، وحرصه على تمتين عرى العلاقة مع المحيط العربي، وكيف أسهم الكرد في الحفاظ على وحدة العراق، ودورهم المهم والكبير في بناء التجربة الديمقراطية، وانفتاح الإقليم على المحيط العربي في زيارات مكوكية لحثهم على التفاعل والاستثمار في الإقليم، وأفضل صورة لذلك حين احتضنت أربيل مؤتمر البرلمانات العربية، وما تمخض عنه من ترسيخ العلاقة مع هذه الدول، ولا سيما الخليجية منها.. والزائر إلى أربيل يلاحظ أن أغلب شوارع أربيل ومقاهيها ومطاعمها وفنادقها تعج بالعرب من العراقيين، بل نسبتهم أكثر من السكان المحليين..! وما سقناه هو غيض من فيض.

إذن وعلى وفق هذه المعطيات تأكد نجاح السياسة التي انتهجها الإقليم، بوصفه جزءا من العراق، وخصوصيته تعزز وحدة البناء العراقي، فضلا عن انسجامه مع المحيط العربي، بعوامل الارتباط العراقي بمحيطه العربي أو عبر الجغرافيا والتاريخ والانتماء الإسلامي. هذه المشتركات اشتغل الكرد عليها وآمنوا بها حتى أصبحت حقيقة غير قابلة للتشويه. فجاءت المبادرة الكبيرة للملك عبد الله باستقباله السيد مسعود كزعيم سياسي، وتقليده «وشاح الملك عبد العزيز» كتتويج لهذه المواقف، وما يترشح من دلالة لموقف السعودية، هو الدور السياسي المتنامي والكبير لها في المنطقة والعالم، عبر استيعاب المتغيرات السياسية الإقليمية والعالمية، والتحرك وفق الاشتراطات التاريخية ومعطيات التحول بتزامن مدروس ومعتدل.

إذن لا غرابة من منح الملك عبد الله صفة «القائد المؤثر» كما جاء في عنوان أحد الكتب المطبوعة في أميركا للكاتب الأميركي «روب سبهاني».

*كاتبة وأكاديمية

من إقليم كردستان العراق